وإن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله فقد علمكم في كتابه، وأوضح لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين وأحسنوا كما أحسن الله إليكم وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده ﴿هو اجتباكم﴾ و﴿سماكم المسلمين﴾ (الحج : ٧٨)
ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيّ عن بينة ولا حول ولا قوة إلا بالله فأكثروا ذكر الله تعالى واعملوا لما بعد الموت، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
قال بعضهم : قد أبطل الله تعالى قول اليهود في ثلاث افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه، فكذبهم في قوله :﴿فتمنوا الموت إن كنتم صادقين﴾ وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم الله بالحمار يحمل أسفاراً وبالسبت وإنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله تعالى لهم يوم الجمعة.
تنبيه : سمى الله تعالى الجمعة ذكراً له، قال أبو حنيفة : إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى ذكر الله كقوله : الحمد لله سبحان الله جاز، وعن عثمان أنه صعد المنبر فقال : الحمد لله ؛ فارتج عليه، فقال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالاً، وإنكم إلى أمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، وستأتيكم الخطب، ثم نزل وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكر عليه أحد.
وعند صاحبيه والشافعي لا بد من كلام يسمى خطبة، ولها أركان وشروط مذكورة في الفقه.
فإن قيل : كيف يفسر ذكر الله بالخطبة، وفيها ذكر غير الله ؟
أجيب : بأن ما كان من ذكر رسوله والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين، وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله، وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم، وهم أحق بعكس ذلك فمن ذكر الشيطان.
وهو من ذكر الله على مراحل فإن المنصت للخطبة إذا قال لصاحبه : صه فقد لغا، أفلا يكون
٣٠٧
الخطيب المغالي في ذلك لاغياً نعوذ بالله من غربة الإسلام، ومن نكد الأيام وقد خاطب الله تعالى المؤمنين بالجمعة دون الكافرين تشريفاً لهم وتكريماً، فقال ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ ثم خصه بالنداء وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى :﴿وإذا ناديتم إلى الصلاة﴾ ليدل على وجوبه وتأكد فرضه. وقال بعض العلماء : كون الصلاة الجمعة ههنا معلوم بالإجماع لا من نفس اللفظ، وقال ابن العربي : وعندي إنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة، وهي قوله تعالى :﴿من يوم الجمعة﴾ وذلك يفيده لأن النداء الذي يختص بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة، وأما غيرها فهو عام في سائر الأيام، ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى فلا فائدة فيه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠٥
واختلف في معنى قوله تعالى :﴿فاسعوا﴾ أي : لتكونوا أولياء الله ولا تتهاونوا في ذلك. فقال الحسن : والله ما هو سعي على الأقدام، ولكن سعي بالقلوب والنية، وقال الجمهور : السعي : العمل لقوله تعالى :﴿ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن﴾ (الإسراء : ١٩)
كقوله تعالى :﴿إن سعيكم لشتى﴾ (الليل : ٤)
وقوله تعالى :﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى﴾ (النجم : ٣٩)
وعن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال :"إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن أئتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" واختلفوا أيضاً : في معنى قوله تعالى :﴿إلى ذكر الله﴾ أي : الملك الأعظم، فقال سعيد بن المسيب : هو موعظة الإمام، وقال غيره : الخطبة والصلاة المذكرة بالملك الأعظم الذي من انقطع عن خدمته هلك.
ولما أمر بالمبادرة إلى تجارة الآخرة قال تعالى ناهياً عن تجارة الدنيا التي تعوق عن الجمعة ﴿وذروا البيع ﴾ أي : اتركوا البيع والشراء ؛ لأن اسم البيع يتناولهما جميعاً، وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني. وقال الزهري : عند خروج الإمام، وقال الضحاك : إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء. وإنما خص البيع من بين الأمور الشاغلة عن ذكر الله تعالى، لأن يوم الجمعة يوم تهبط الناس فيه من بواديهم وقراهم، وينصبون إلى المصر من كل أوب ووقت هبوطهم واجتماعهم، واختصاص الأسواق إذا انتفخ النهار وتعالى الضحى، ودنا وقت الظهيرة وحينئذ تنجز التجارة ويتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك الوقت مظنة للذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد قيل : بادروا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله ﴿ذلكم﴾ أي : الأمر العالي الرتبة من فعل السعي، وترك الاشتغال بالدنيا ﴿خير لكم﴾ لأن الأمر الذي أمركم به الذي له الأمر كله، وهو يريد تطهيركم في أديانكم وأبدانكم وأموالكم وبيده إسعادكم وإشقاؤكم.
فإن قيل : إذا كان البيع في هذا الوقت محرماً فهل هو فاسد ؟