قال ابن عباس : إن شئت فاخرج، وإن شئت فاقعد، وإن شئت فصل إلى العصر. وقيل : فانتشروا في الأرض ليس لطلب دنيا، ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله تعالى. وقال الحسن، وسعيد بن جبير ومكحول ﴿وابتغوا من فضل الله﴾ هو طلب العلم ﴿واذكروا الله﴾ أي : الذي له الأمر كله ﴿كثيراً﴾ أي : بحيث لا تغفلون عنه بقلوبكم أصلاً ولا بألسنتكم حتى عند الدخول إلى الخلاء وعند أول الجماع، واستثني من الثاني وقت التلبس بالقذر كوقت قضاء الحاجة والجماع ﴿لعلكم تفلحون﴾ أي : تفوزون بالجنة والنظر إلى وجهه الكريم وعن جابر بن عبد الله "أن النبي ﷺ كان يخطب قائماً يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً" وفي رواية "أنا فيهم" فأنزل الله تعالى :﴿وإذا رأوا تجارة﴾ أي : حمولاً هي موضع للتجارة ﴿أو لهواً﴾ أي : ما يلهي عن كل نافع ﴿انفضوا﴾ أي : نفروا متفرقين من العجلة ﴿إليها﴾ أي : التجارة لأنها مطلوبهم دون اللهو، وأيضاً العطف بأو فإفراد الضمير أولى. وقال الزمخشري : تقديره : إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. وذكر الكلبي وغيره : أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عن مجاعة وغلاء سعر، وكان معه جميع ما تحتاج إليه الناس من بر ودقيق وغيره، فنزل عند أحجار الزيت وضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه، فخرج الناس إلا اثنى عشر رجلاً، وقيل : أحد عشر رجلالاً وقال ابن عباس في رواية الكلبي : لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط. وقال الحسن وأبو مالك : أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام، والنبي ﷺ يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه، فلما لم يبق مع النبي ﷺ إلا رهط منهم أبو بكر وعمر فنزلت هذه الآية، فقال ﷺ "والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي ناراً".
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠٥
وقال مقاتل بن حيان، ومقاتل بن سليمان : بينما رسول الله ﷺ يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة وكان إذا قدم المدينة لم يبق بالمدينة عاتق إلا أتته، وكان يقدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وغيره، فينزل عند أحجار الزيت، وكانت في سوق المدينة ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فخرج إليه الناس ليتبايعوا منه، فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم، ورسول الله ﷺ قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس، ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة، فقال النبي ﷺ "لولا هؤلاء لرميت عليهم الحجارة من السماء" وأنزل الله تعالى هذه الآية والمراد باللهو الطبل.
وقيل : كانت العير إذا قدمت المدينة استقبلوا بالطبل والتصفيق. وقال علقمة : سئل عبد الله
٣١١
أكان رسول الله ﷺ يخطب قائماً أو قاعداً فقال : أما تقرأ ﴿وتركوك قائماً﴾ وعن جابر بن عبد الله قال :"كان النبي ﷺ يخطب يوم الجمعة خطبتين قائماً يفصل بينهما بجلوس" وذكر أبو داود في مراسيله السبب الذي ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة، وقد كانوا خليقاً لفضلهم أن لا يفعلوا، فقال : حدثنا محمد بن خالد، قال : حدثنا الوليد، قال : أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف أنه سمع مقاتل بن حبان قال : كان رسول الله ﷺ يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين، حتى كان يوم جمعة والنبي ﷺ يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل يقال له : دحية بن خليفة قدم بتجارة، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقدم النبي ﷺ يوم الجمعة الخطبة وأخر الصلاة، وكان لا يخرج أحد لرعاف أو حدث بعد النهي حتى يستأذن النبي ﷺ يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن له النبي ﷺ ثم يشير إليه بيده، فكان في المنافقين من تثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه مستتراً به حتى يخرج فأنزل الله تعالى :﴿قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً﴾ (النور : ٦٣)
الآية". قال السهيلي : وهذا الخبر وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب النبي ﷺ يوجب أن يكون صحيحاً وقال قتادة : وبلغنا أنهم فعلوه ثلاث مرات كل مرة عير تقدم من الشام، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠٥
وقيل : إن خروجهم لقدوم دحية بتجارته ونظرهم إلى العير، وهي تمر لهو لا فائدة فيه إلا أنه كان مما لا إثم فيه لو وقع على ذلك الوجه، ولكنه لما اتصل به الإعراض عن رسول الله ﷺ والانفضاض عن حضرته غلظ وكبر، ونزل فيه من القرآن وتهجينه باسم اللهو ما نزل. وقوله تعالى :﴿وتركوك﴾ أي : تخطب حتى بقيت في اثني عشر رجلاً، قال جابر : أنا أحدهم ﴿قائماً﴾ جملة حالية من فاعل انفضوا، وقد مقدرة عند بعضهم.
تنبيه : في قوله تعالى :﴿قائماً﴾ تنبيه على مشروعيته في الخطبتين، وهو من الشروط للقادر على القيام، وأما أركانهما فخمسة : حمد الله تعالى، وصلاة على النبي ﷺ بلفظهما، ووصية بتقوى الله، وهذه الثلاثة في كل من الخطبتين، وقراءة آية مفهمة ولو في إحداهما والأولى أولى، ودعاء للمؤمنين والمؤمنات في ثانية، ومن الشروط كونهما عربيتين، وكونهما في الوقت، وولاء، وطهر، وستر كالصلاة ﴿قل﴾ يا أشرف الخلق للمؤمنين ﴿ما عند الله﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال ﴿خير﴾ ما موصولة مبتدأ وخير خبرها ﴿من اللهو ومن التجارة﴾ والمعنى : ما عند الله تعالى من ثواب صلاتكم خير من لذة لهوكم، وفائدة تجارتكم. وقيل : ما عند الله من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما اقتسمتموه من لهوكم وتجارتكم ﴿والله﴾ أي : ذو الجلال والإكرام وحده ﴿خير الرازقين﴾ أي : خير من رزق وأعطى فاطلبوا منه، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة. وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال :"من قرأ سورة الجمعة أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة ومن لم يأتها في أمصار المسلمين" حديث موضوع.
٣١٢
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠٥


الصفحة التالية
Icon