﴿الله﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال ﴿لا إله إلا هو﴾ فهو القادر على خلق الهداية في القلوب والإقبال بها لا يقدر على ذلك غيره ﴿وعلى الله﴾ أي : الذي له الأمر لا على غيره ﴿فليتوكل المؤمنون﴾ أي : لأن إيمانهم بأن الكل منه يقتضي ذلك. وقال الزمخشري : هذا بعث لرسول الله ﷺ على التوكل عليه، والتقوى به في أمره حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :﴿يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم﴾ أي : وإن أظهرن غاية المودة ﴿وأولادكم﴾ أي : وإن أظهروا غاية الشفقة ﴿عدواً لكم﴾ فقال ابن عباس : نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي شكا إلى النبي ﷺ جفاء أهله وولده فنزلت ذكره النحاس، وحكاه الطبري عن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة التغابن كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات ﴿يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم﴾ فإنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوه ورققوه، وقالوا : إلى من تدعنا فيرق فيقيم، فنزلت هذه الآية إلى آخر السورة بالمدينة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٢٥
وروى الترمذي عن ابن عباس وسئل عن هذه الآية قال : هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة، وأرادوا أن يأتوا النبي ﷺ فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتوا النبي ﷺ فلما أتوا النبي ﷺ رأوا الناس قد تفقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية، حديث حسن صحيح.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :"إن الشيطان قعد لابن آدم في طرق الإيمان فقال له : أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن، ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له : أتهاجر وتترك أهلك ومالك فخالفه فهاجر، ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له : أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل، فحق على الله أن يدخله الجنة".
وقعود الشيطان يكون بوجهين : أحدهما : يكون بالوسوسة، والثاني : أن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب قال تعالى :﴿وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم﴾ (فصلت : ٢٥)
وفي حكمة عيسى عليه الصلاة والسلام : من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان في الدنيا
٣٢٠
عبداً. وقال عليه الصلاة والسلام :"تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة" ولا دناءة أعظم من دناءة الدينار والدرهم، ولا أخس من همة ترتفع بثوب جديد ويدخل في قوله تعالى :﴿إن من أزواجكم﴾ الذكر والأنثى، فكما أن الرجل تكون زوجته عدواً له كذلك المرأة يكون زوجها عدواً لها بهذا المعنى ﴿فاحذروهم﴾ أي : أن تطيعوهم في التخلف عن الخير، ولا تأمنوا غوائلهم ﴿وإن تعفوا﴾ أي : توقعوا المجاوزة عن ذنوبهم بعدم العقاب عليها فإنه لا فائدة في ذلك، فإن من طبع على شيء لا يرجع عنه وإنما النافع الحذر الذي أرشد إليه تعالى لئلا يكون سبباً للذم المنهي عنه ﴿وتصفحوا﴾ أي : بالإعراض عن المقابلة بالتثريب باللسان ﴿وتغفروا﴾ أي : بأن تستروا ذنوبهم ستراً تاماً شاملاً للعين والأثر بالتجاوز ﴿فإن الله﴾ أي : الجامع لصفات الكمال ﴿غفور﴾ أي : بالغ المحو لأعيان الذنوب وآثارها جزاء لكم على غفرانكم لهم، وهو جدير بأن يصلحهم لكم بسبب غفرانكم ﴿رحيم﴾ فيكرمكم بعد ذلك الستر بالإنعام فتخلقوا بأخلاقه تعالى يزدكم من فضله.
﴿إنما أموالكم﴾ أي : عامة ﴿وأولادكم﴾ كذلك ﴿فتنة﴾ أي : اختبار من الله تعالى لكم، وهو أعلم بما في نفوسكم منكم لكي ليظهر في عالم الشهادة من يميله ذلك فيكون عليه نقمة ممن لا يميله فيكون عليه نعمة، فربما رام الإنسان صلاح ماله وولده فبالغ فأفسد نفسه، ثم لا يصلح ذلك ماله ولا ولده. روى أبو نعيم في الحلية في ترجمة سفيان الثوري رضي الله عنه أنه قال : يؤتى برجل يوم القيامة فيقال : أكل عياله حسناته. وعن بعض السلف : العيال سوس الطاعات ويكفي في فتنة لمال قصة ثعلبة بن حاطب أحد من نزل فيه قوله تعالى :﴿ومنهم من عاهد الله﴾ (التوبة : ٧٥)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٢٥
وعن ابن مسعود : لا يقولن أحدكم اللهم اعصمني من الفتنة، فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال ولا ولد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل اللهم أعوذ بك من مضلات الفتن. وقال الحسن في قوله تعالى :﴿إن من أزواجكم وأولادكم﴾ أدخل من للتبعيض لأنهم كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر في قوله تعالى :﴿إنما أموالكم وأولادكم فتنة﴾ لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما.


الصفحة التالية
Icon