وقيل : غلاظ أجسامهم ضخمة شداد، أي : الأقوياء. قال ابن عباس : ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقال ﷺ في خزنة جهنم :"ما بين منكبي كل واحد منهم كما بين المشرق والمغرب" ﴿لا يعصون الله﴾ أي : الملك الأعلى في وقت من الأوقات، وقوله تعالى :﴿ما أمرهم﴾ بدل من الجلالة أي : لا يعصون أمر الله، وقوله تعالى :﴿ويفعلون ما يؤمرون﴾ تأكيد ؛ هذا ما جرى عليه الجلال المحلي. وقال الزمخشري : فإن قلت : أليست الجملتان في معنى واحد ؟
قلت : لا فإن معنى الأولى أنهم يقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها، ومعنى الثانية : أنهم يؤدون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه، ولا يتوانون فيه. وقيل : لا يعصون الله ما أمرهم الله فيما مضى ويفعلون ما يؤمرون فيما يستقبل، وصدر بهذا البيضاوي.
فإن قيل : إنه تعالى خاطب المشركين في قوله تعالى :﴿فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي
٣٦٠
وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين﴾ (البقرة : ٢٤) فجعلها معدة للكافرين فما معنى مخاطبته للمؤمنين بذلك ؟
أجيب : بأن الفساق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار فإنهم مع الكفار في دار واحدة، فقيل للذين آمنوا :﴿قوا أنفسكم﴾ باجتناب الفسوق مساكنة الذين أعدت لهم هذه الدار الموصوفة، ويجوز أن يأمرهم بالتوقي عن الارتداد والندم على الدخول في الإسلام، وأن يكون خطاباً للذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون.
قال الزمخشري : ويعضد ذلك قوله تعالى على الإثر :
﴿يا أيها الذين كفروا﴾ أي : بالإخلال بالأدب مع النبي ﷺ فأداهم ذلك إلى الإخلال بالأدب مع الله تعالى، وبالأدب مع سائر خلقه ﴿لا تعتذروا﴾ أي : تبالغوا في إظهار العذر هو إيساغ الحيلة في وجه يزيل ما ظهر من التقصير ﴿اليوم﴾ فإنه يوم الجزاء لا يوم الاعتذار، وقد فات زمان الاعتذار وصار الأمر إلى ما صار وهذا النهي لتحقيق اليأس ﴿إنما تجزون﴾ أي : في هذا اليوم ﴿ما كنتم﴾ أي : ما هو لكم كالجبلة والطبع ﴿تعملون﴾ في الدنيا، ونظيره ﴿فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم﴾ (الروم : ٥٧) قال البقاعي : ولا بعد على الله في أن يصور لكل إنسان صورة عمله بحيث لا يشك أنه عمله ثم يجعل تلك الصورة عذابه الذي يجد فيه من الألم ما علم الله تعالى أنه بمقدار استحقاقه.
ولما بين تعالى أن المعذرة لا تنفع في ذلك اليوم أمر بالتوبة في الدنيا بقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٥٨
﴿يا أيها الذين آمنوا توبوا﴾ أي : ارجعوا رجوعاً تاماً ﴿إلى الله﴾ أي : الملك الذي لا نظير له ﴿توبة﴾ وقوله :﴿نصوحاً﴾ صيغة مبالغة أسند النصح إليها مجازاً، وهي من نصح الثوب إذا خاطه فكأن التائب يرقع بالمعصية. وقيل : من قولهم : ناصح، أي : خالص. وقرأ شعبة بضم النون، والباقون بفتحها.
تنبيه : أمرهم بالتوبة وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وفي كل الأزمان. واختلفوا في معناها، فقال عمر ومعاذ : التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبن في الضرع، وقال الحسن : هي أن يكون العبد نادماً على ما مضى مجمعاً على أن لا يعود فيه. وقال الكلبي : أن يستغفر باللسان، ويندم بالقلب، ويمسك بالبدن.
وعن حوشب : أن لا يعود ولو حز بالسيف وأحرق بالنار، وعن سماك : أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله تعالى أمام عينيك، وتتبعه نظرك. وعن السدي : لا تصح إلا بنصيحة النفس، ونصيحة المؤمنين لأن من صحت توتبته أحب أن يكون الناس مثله.
وقال سعيد بن المسيب : توبة ينصحون فيها أنفسهم. وقال القرطبي : يجمعها أربع أشياء : الإستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيء الإخوان.
وقال الفقهاء : التوبة التي لا تعلق لحق آدمي فيها لها ثلاثة شروط : أحدها : أن يقلع عن المعصية، وثانيها : أن يندم على ما فعله، وثالثها : أن يعزم على أن لا يعود إليها. فإذا اجتمعت هذه الشروط في التوبة كانت نصوحاً وإن فقد شرط منها لم تصح توبته. وإن كانت تتعلق بآدمي فشروطها أربعة : هذه الثلاثة المتقدمة، والرابع : أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت المعصية مالاً ونحوه رده إلى مالكه، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه من نفسه، أو طلب العفو منه، وإن كانت غيبة استحله منها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٦١
قال العلماء : التوبة واجبة من كل معصية كبيرة أو صغيرة على الفور، ولا يجوز تأخيرها
٣٦١