ولما ذكر أصحاب السعير أتبعهم ذكر أضدادهم بقوله تعالى :﴿إن الذين يخشون﴾ أي : يخافون ﴿ربهم﴾ أي : المحسن إليهم خوفاّ أرق قلوبهم وأرق أعينهم بحيث لا يقر لهم قرار من توقعهم العقوبة كلما ازدادوا طاعة ازدادوا خشية ﴿يؤتون ما آتو وقلوبهم وجلة﴾ (المؤمنون : ٦٠). ﴿بالغيب﴾ أي : حال كونهم غائبين عن عذابه سبحانه، أو وعيده غائباً عنهم أو وهم غائبون عن أعين الناس فهم مع الناس يتكلمون وقلوبهم تتلظى بنيران الخوف وتتكلم بسيوف الهيبة فيتركون
٣٧٣
المعصية حيث لا يراهم أحد من الناس ولا يكون لهم هذا إلا برياضة عظيمة، فعلى العاقل أن يطوع نفسه لترجع مطمئنة بأن ترضى بالله رباً لتدخل في رق العبودية، وبالإسلام ديناً ليصير غريقاً فيها، فلا ينازع الملك في ردائه الكبرياء وإزاره العظمة وتاجه الجلال وحلته الجمال، ولا ينازعه فيما يدبره من الشرائع ويظهره من المعارف ويحكم به على عبيده من قضائه وقدره. ﴿لهم مغفرة﴾ أي : عظيمة تأتي على جميع ذنوبهم ﴿وأجر﴾ أي : من فضل الله تعالى ﴿كبير﴾ يكون لهم به من الإكرام ما ينسيهم ما قاسوه في الدنيا من شدائد الإيلام ويصغر في جنبه لذائذ الدنيا العظام.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٧٢
﴿وأسروا﴾ أي : أيها الخلائق ﴿قولكم﴾ أي : خيراً كان أو شراً ﴿أو اجهروا به﴾ فإنه يعلمه ويجازيكم به، اللفظ لفظ الأمر والمراد به الخير، يعني : إن أخفيتم كلامكم في أمر محمد ﷺ أو غيره أو جهرتم به فسواء ﴿إنه﴾ أي : ربكم ﴿عليم﴾ أي : بالغ العلم ﴿بذات الصدور﴾ أي : بحقيقتها وكنهها وحالها وجبلتها وما يحدث عنها من الخير والشر وقال ابن عباس :"نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبي ﷺ فيخبره جبريل عليه السلام فقال : بعضهم لبعض أسروا قولكم كي لا يسمع رب محمد". فأسروا قولكم أو اجهروا به يعني : وأسروا قولكم في محمد ﷺ وقال غيره : إنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال، والمراد أن قولكم وعملكم على أيّ سبيل وجد فالحال واحد في علمه تعالى، فاحذروا من المعاصي سراً كما تحذرون عنها جهراً فإنّ ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم الله تعالى.
ولما قال تعالى :﴿إنه عليم بذات الصدور﴾ ذكر الدليل على أنه عالم فقال تعالى :﴿ألا يعلم من خلق﴾ أي : من خلق لا بدّ وأن يكون عالماً بما خلقه، لأن الخلق هو الإيجاد والتكوين على سبيل القصد، والقاصد إلى الشيء لابد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق كيفية وكمية. والمعنى : ألا يعلم السر من خلق السر، يقول : أنا خلقت السر في القلب أفلا أكون عالماً بما في
٣٧٤
قلوب العباد، قال أهل المعاني : إن شئت جعلته من أسماء الخالق تعالى ويكون المعنى : ألا يعلم الخالق خلقه، وإن شئت جعلته من أسماء المخلوق والمعنى : ألا يعلم الله من خلقه، ولا بد أن يكون الخالق عالماً بما خلقه وما يخلقه قال ابن المسيب : بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير وقد عصفت الريح فوقع في نفس الرجل أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم ألا يعلم من خلق ﴿وهو﴾ أي : والحال أنه هو ﴿اللطيف﴾ الذي يعلم ما بثه في القلوب ﴿الخبير﴾ أي : البالغ العلم بالظواهر والبواطن فكيف يخفى عليه شيء من الأشياء.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٧٤
وقال أبو إسحاق الاسفرايني : من أسماء صفات الذات ما هو للعلم منها العليم ومعناه تعميم جميع المعلومات، ومنها الحكيم، ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف، ومنها الشهيد، ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر، ومعناه أن لا يغيب عنه شيء، ومنها الحافظ ويختص بأنه لا ينسى شيئاً، ومنها المحصي ويختص بأنه لا يشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الأوراق فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال :﴿ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير﴾.
ولما كان هذا أمراً غامضاً دل عليه بأمر مشاهد أبدعه بلطفه وأتقنه بخبره فقال مستأنفاً :﴿هو﴾ أي : وحده ﴿الذي جعل لكم الأرض﴾ على سعتها وعظمتها وحزونة كثير منها ﴿ذلولاً﴾ أي : مسخرة لا تمتنع لتتوصلوا إلى منافعكم فيها قابلة للانقياد لما تريدون منها من مشي وزرع حبوب وغرس أشجار وغير ذلك، وقيل : ثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها ولو كانت متمايلة لما كانت منقادة لنا، وقيل : لو كانت مثل الذهب والحديد لكانت تسخن جداً في الصيف وتبرد جداً في الشتاء.
تنبيه : في ذكر هذه الآية بعد الآية المتقدمة تهديد للكفرة كقول السيد لعبده الذي أساء إليه سراً : يا فلان أنا أعرف سرك وعلانيتك فاجلس في هذه الدار التي وهبتها لك، وكل هذا الخبز الذي هيأته لك ولا تأمن مكري وتأديبي، فكأنه تعالى يقول : يا أيها الكفار أنا عالم بسركم وجهركم وضمائركم فخافوني فإن الأرض التي هي قراركم أنا ذللتها لكم ولو شئت خسفت بكم.