الثاني : أن الباء بمعنى في فهي ظرفية كقولك : زيد بالبصرة، أي : فيها، والمعنى : في أي فرقة وطائفة منكم المفتون، أي : المجنون أفي فرقة الإسلام، أم في فرقة الكفر ؟
وإليه ذهب مجاهد والفراء.
الثالث : أنه على حذف مضاف، أي : بأيكم فتن المفتون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وإليه ذهب الأخفش وتكون الباء سببية.
الرابع : أن المفتون مصدر جاء على مفعول كالمقتول والميسور، والتقدير : بأيكم الفتنة، وقيل : المفتون المعذب من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته قال تعالى :﴿يوم هم على النار يفتنون﴾ (الذاريات : ١٣)، أي : يعذبون، وقيل : الشيطان لأنه مفتون في دينه وكانوا يقولون : إنه به شيطان وعنوا بالمجنون هذا، فقال تعالى : سيعلمون غدَاً بأيهم الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل.
فائدة :﴿بأييكم﴾ رسمت ههنا بياءين.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٨٢
﴿إن ربك﴾ أي : الذي رباك أحسن تربية وفضلك على سائر الخلائق ﴿هو﴾ أي : وحده ﴿أعلم﴾ أي : من كل أحد ﴿بمن ضلّ﴾ أي : حاد ﴿عن سبيله﴾ أي : دينه وسلك غير سبيل القصد وأخطأ موضع الرشد ﴿وهو﴾ أي : وحده ﴿أعلم بالمهتدين﴾ أي : الثابتين على الهدى، وهم أولوا الأحلام والنهى، أي : لذو علم بمعنى عالم.
تنبيه : قوله تعالى :﴿وهو أعلم﴾ ﴿وهو مكظوم﴾ ﴿وهو مذموم﴾ قرأه قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بضمها وقوله تعالى :﴿فلا تطع المكذبين﴾ أي : العريقين في التكذيب وهم مشركو مكة، فإنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فنهاه أن يطيعهم، ينتج التصميم على معاداتهم.
﴿ودّوا﴾ أي : تمنوا وأحبوا محبة واسعة متجاوزة للحدّ قديماً مع الاستمرار على ذلك ﴿لو﴾ مصدرية ﴿تدهن فيدهنون﴾ قال الضحاك : لو تكفر فيكفرون. وقال الكلبي : لو تلين لهم فيلينون لك. وقال الحسن : لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم. وقال زيد بن أسلم : لو تنافق وترائي فينافقون ويراؤون. وقال ابن قتيبة : أرادوا أن يعبد آلهتهم مدّة ويعبدون الله مدة. وقال ابن العربي : ذكر المفسرون في ذلك نحو عشرة أقوال كلها دعاوى على اللغة، والمعنى وأمثلها : ودّوا لو تكذب فيكذبون، ودّوا لو تكفر فيكفرون. وقال القرطبي : كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى.
تنبيه : في رفع فيدهنون وجهان : أحدهما : أنه عطف على تدهن فيكون داخلاً في حيّز لو، والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر، أي : فهم يدهنون. وقال الزمخشري : فإن قلت لم رفع فيدهنون ولم ينصب بإضمار أن وهو جواب التمني، قلت : قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف، أي : فهم يدهنون، كقوله تعالى :﴿فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً﴾ (الجن : ١٣) على معنى : ودّوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ أو ودّوا ادهانك، فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك.
واختلفوا في سبب نزول قوله تعالى :﴿ولا تطع كل حلاف﴾، أي : كثير الحلف بالباطل
٣٨٩
فقال مقاتل : يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبي ﷺ مالاً وحلف له أن يعطيه إن رجع عن دينه، وقال ابن عباس : هو أبو جهل بن هشام. وقال عطاء : هو الأخنس بن شريق ؛ لأنه حليف ملحق في بني زهرة فلذلك سمة زنيماً، وقال مجاهد : هو الأسود بن عبد يغوث. ﴿مهين﴾، أي : ضعيف حقير. قيل : هو فعيل من المهانة وهي قلة الرأي والتمييز. وقال ابن عباس : كذاب وهو قريب من الأول، لأن الإنسان إنما يكذب لمهانة نفسه عليه. وقال الحسن وقتادة : هو المكار في الشر، وقال الكلبي : المهين العاجز.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٨٩
هماز﴾
أي : كثير العيب للناس في غيبتهم. وقال الحسن : هو الذي يغمز بأخيه في المجلس. وقال ابن زيد : الهماز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم واللماز باللسان. وقيل : الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم، واللماز الذي يذكرهم في غيبتهم وقال مقاتل : بالعكس، وقال مرّة : هما سواء، ونحوه عن ابن عباس وقتادة. ﴿مشاء﴾ أي : كثير المشي ﴿بنميم﴾ أي : فتان يلقي النميمة بين الناس ليفسد بينهم فينقل ما قاله الإنسان في آخر، وإذاعة سر لا يريد صاحبه إظهاره على وجه الإفساد البين مبالغ في ذلك.
﴿مناع﴾ أي : كثير المنع شديده ﴿للخير﴾ أي : كل خير من المال والإيمان وغيرهما من نفسه وغيره من الدين والدنيا، وقال ابن عباس : مناع للخير، أي : الإسلام يمنع ولده وعشيرته من الإسلام وكان له عشرة من الولد يقول : لئن دخل أحد منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبداً. ﴿معتد﴾ أي : ثابت التجاوز للحدود في كل ذلك ﴿أثيم﴾، أي : مبالغ في ارتكاب ما يوجب الإثم فيترك الطيبات ويأخذ الخبائث يرغب في المعاصي ويتطلبها ويدع الطاعات ويزهد فيها.


الصفحة التالية
Icon