بهمزتين مفتوحتين وابن عامر يسهل الثانية، وشعبة وحمزة بتحقيقهما وهشام على أصله يدخل بينهما ألفاً والباقون بهمزة واحدة مفتوحة. قال القرطبي : فمن قرأ بهمزة مطولة أو بهمزتين محققتين، فهو استفهام والمراد به التوبيخ، ويحسن له أن يقف على ﴿زنيم﴾ ويبتدىء ﴿أن كان﴾ على معنى ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه ؟
ويجوز أن يكون التقدير : ألأن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين، ويجوز أن يكون التقدير : ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر ؟
ودل عليه ما تقدم من الكلام، فصار كالمذكور بعد الاستفهام، ومن قرأ أن كان بغير استفهام فهو مفعول من أجله، والعامل فيه فعل مضمر، والتقدير : يكفر لأن كان ذا مال وبنين، ودل على هذا الفعل ﴿إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين﴾ ولا يعمل في إذا تتلى ولا قال، لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها ؛ لأن إذا تضاف إلى الجمل التي بعدها، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف. وقال : جواب الجزاء ولا يعمل فيما قبل الجزاء إذ حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط، فيصير مقدماً مؤخراً في حال واحد.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٨٩
ويجوز أن يكون المعنى : لا تطعه لإن كان ذا يسار وعدد. قال ابن الأنباري : ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على زنيم، لأن المعنى : لأن كان ذا مال كان، فأن متعلقة بما قبلها. وقال غيره : يجوز أن تتعلق بقوله تعالى :﴿مشاء بنميم﴾ والتقدير : يمشي بنميم لإن كان ذا مال وبنين، وأجاز أبو علي أن تتعلق بعتل. ومعنى ﴿أساطير الأولين﴾ أباطيلهم وترهاتهم.
﴿سنسمه﴾ أي : نجعل له سمة، أي : علامة يعرف بها ﴿على الخرطوم﴾ أي : الأنف يعير بها ما عاش، قال ابن عباس : سنسمه سنخطمه بالسيف، قال : وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف، فلم يزل مخطوماً إلى أن مات، والتعبير عن الأنف بهذا للاستهانة والاستخفاف. وقال قتادة : سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها. وقال الكسائي : سنكويه على وجهه وقال أبو العالية ومجاهد : سنسمه على الخرطوم، أي : على أنفه ونسوّد وجهه في الآخرة فيعرف بسواد وجهه قال تعالى :﴿يوم تبيض وجوه وتسود وجوه﴾ (آل عمران : ١٠٦)
فهي علامة ظاهرة ﴿ونحشر المجرمين يومئذ زرقا﴾ (طه : ١٠٢)
وهذه علامة أخرى ظاهرة.
وأفادت هذه الآية علامة ثالثة : وهي الوسم على الأنف بالنار، وهذا كقوله تعالى :﴿يعرف المجرمون بسيماهم﴾ (الرحمن : ٤١)
قال القرطبي : والخرطوم الأنف من الإنسان، ومن السباع موضع الشفة، وخراطيم القوم ساداتهم. قال الفراء : وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه في معنى الوجه، لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل. وقال القرطبي : بين أمره تبياناً واضحاً فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم، وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة، ولا شك أن المبالغة العظيمة في ذمه بقيت على وجه الدهر، ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغ منه، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا ولا في الآخرة كالوسم على الخرطوم. وقيل : ما ابتلاه الله تعالى به في الدنيا في نفسه وأهله وماله من سوء وذل وصغار. وقال النضر بن شميل : المعنى : سنحده على شرب الخمر، والخرطوم الخمر وجمعه خراطيم. قال : الرازي كالزمخشري وهذا تعسف ا. ه. وقيل للخمر : الخرطوم كما قيل لها : السلافة وهي ما سلف من عصير العنب أو لأنها تطير في الخياشيم.
تنبيه : الأنف أكرم موضع في الوجه لتقديمه له، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا
٣٩٢
منه الأنفة، وقالوا : الأنف في الأنف وحمى أنفه، وفلان شامخ العرنين، وقالوا في الذليل : جدع أنفه ورغم أنفه، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة، لأن السمة على الوجه شين وإذلال فكيف بها على أكرم موضع منه ؟
ولقد وسم العباس أباعره في وجوهها فقال له رسول الله ﷺ "أكرموا الوجوه فوسمها في جواعرها".
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٨٩
ولما ذكر تعالى في أول الملك أنه خلق الموت والحياة للابتلاء في الأعمال، وختم هنا بعيب من يغتر بالمال والبنين وهو يعلم أن الموت وراءه أعاد ذكر الابتلاء وأكده بقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٨٩
﴿إنا﴾ أي : بما لنا من القهر والعظمة ﴿بلوناهم﴾ أي : عاملنا أهل مكة بما وسعنا عليهم به معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر والباطن، فغرّهم ذلك وظنوا أنهم أحباب، ومن قترنا عليهم من أوليائنا أعداء واستهانوا بهم ونسبوهم لأجل تقللهم من الدنيا إلى السفة والجنون وكان ابتلاؤنا لهم بالقحط الذي دعا عليهم به رسول الله ﷺ حتى أكلوا الجيف ﴿كما بلونا﴾ أي : اختبرنا ﴿أصحاب الجنة﴾ بأن عاملناهم معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر.


الصفحة التالية
Icon