ثم فسر ما يتخافتون به بقوله تعالى :﴿أن لا يدخلنها﴾ وأن لا ههنا مقطوعة كما ترى، وأكدوه لأنه لا يصدق أن أحداً يصل إلى هذه الوقاحة وأن جذاذاً يخلو من سائل ﴿اليوم﴾ أي : في جميع النهار بما دل عليه نزع الخافض لتكروا عليه مراراً وتفتشوه فلا تدعوا به ثمرة واحدة ولا موضعاً يطمع فيه أحد في قصدكم ﴿عليكم﴾ وأنتم بها ﴿مسكين﴾ وهي نهي للمسكين في اللفظ للمبالغة في نهى أنفسهم أن لا يدعوه يدخل عليهم، أي : لا يمكنوه من الدخول حتى يدخل كقولك : لا أرينك ههنا، فقال لهم أوسطهم سناً وخيرهم نفساً وأعدلهم طبعاً بما يدل عليه ما يأتي : لا تقولوا هكذا واصنعوا من الإحسان ما كان يصنع أبوكم، قال البقاعي : وكأنه طواه سبحانه لأنه مع الدلالة عليه بما يأتي لم يؤثر شيئاً.
﴿وغدوا﴾ أي : ساروا إليها غدوة ﴿على حرد﴾ أي : منع للمساكين. قال أبو عبيدة : على حرد، أي : منع من حاردت الإبل حراداً، أي : قل لبنها، والحرود من النوق القليلة الدر، وحاردت السنة قل مطرها وخيرها. وقال الشعبي وسفيان : على حنق وغضب من المساكين، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : على قدرة ﴿قادرين﴾ عند أنفسهم على جنتهم وثمارها لا يحول بينهم وبينها أحد، أي : بدليل عدم استثنائهم، فإن الجزم على الفعل في المستقبل فضلاً عن أن يكون مع الحلف فعل من لا كفء له. وقال الحسن وقتادة : على جد وجهد. وقال القرطبي وعكرمة : على أمر مجتمع.
ودل على قربها من منزلتهم بالفاء فقال تعالى :﴿فلما رأوها﴾ أي : بعد سير يسير وليس للزرع ولا للثمر بها أثر ﴿قالوا إنا لضالون﴾ عن طريق جنتنا لأنها صارت لسوء حالها من ذلك الطائف بعيدة عن حال ما كانت عليه عند تواعدهم وتغيير نياتهم، فأدهشهم منظرها وحيرهم خبرها، وأكدوا لأن ضلالهم لا يصدق مع قرب عهدهم وكثرة ملابستهم لها وقوة معرفتهم بها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٩٣
ولما انجلى ما أدهشهم في الحال قالوا مضربين عن الضلال ﴿بل نحن محرومون﴾ أي : ثابت حرماننا ما كنا فيه من الخير الذي لم نغب عنه إلا سواد الليل، فحرمنا الله تعالى إياه بما عزمنا عليه من حرمان المساكين ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ (الرعد : ١١)
وقرأ الكسائي بإدغام اللام في النون والباقون بالإظهار.
٣٩٥
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٩٣
﴿قال : أوسطهم﴾ أي : رأياً وعقلاً وسناً وفضلاً منكراً عليهم ﴿ألم أقل لكم﴾ أي : ما فعلتموه لا ينبغي وإن الله تعالى بالمرصاد لمن غير ما في نفسه وحاد ﴿لولا﴾ أي : هلا ولم لا ﴿تسبحون﴾ أي : تستثنون، فكان استئناؤهم تسبيحاً، قال مجاهد وغيره : وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان يأمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه. قال أبو صالح : كان استثناؤهم سبحان الله، فقال لهم : هلا تسبحون الله، أي : تقولون سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. وقال النحاس : أصل التسبيح التنزيه للّه عز وجل، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء الله لأن المعنى : تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته. وقال الرازي : التسبيح عبارة عن تنزيهه عن كل سوء، فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله تعالى لنسب النقص إلى قدرة الله تعالى، فقولك : إن شاء الله يزيل هذا النقص فكان ذلك تسبيحاً، وقيل : المعنى هلا تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم، قيل : إن القوم لما عزموا على منع الزكاة فاغتروا بالمال والقوة، قال لهم أوسطهم : توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذاب، فلما رأوا العذاب ذكرهم أوسطهم كلامه الأول وقال :﴿ألم أقل لكم لولا تسبحون﴾ فحينئذ اشتغلوا بالتوبة بأن.
﴿قالوا﴾ أي : من غير تلعثم بما عاد عليهم من بركة أبيهم ﴿سبحان ربنا﴾ أي : تنزه المحسن إلينا التنزيه الأعظم أن يكون وقع منه فيما فعل بنا ظلم، وأكدوا قباحة فعلهم هضماً لأنفسهم وخضوعاً لربهم وتحقيقاً لتوبتهم بقولهم :﴿إنا كنا﴾ أي : بما في جبلاتنا من الفساد ﴿ظالمين﴾ أي : مجاوزين الحدود فيما فعلنا من التقاسم على منع المساكين وعلى جذها في الصباح من غير استثناء.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٩٦
فأقبل بعضهم﴾ أي : في الحال مبادرة في الخضوع ﴿على بعض يتلاومون﴾ أي : يلوم بعضهم بعضاً يقول هذا لهذا : أنت أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول ذلك لهذا : أنت الذي خوفتنا بالفقر. ويقول الثالث لغيره : أنت رغبتني في جمع المال.
ثم نادوا على أنفسهم بالويل بأن ﴿قالوا﴾ منادين لما شغلهم قربه منهم وملازمته لهم عن كل شيء ﴿يا ويلنا﴾ أي : هذا وقت حضورك أيها الويل إيانا ومنادمتك لنا، فإنه لا نديم لنا الآن غيرك، والويل الهلاك والإشراف عليه ﴿إنا كنا﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿طاغين﴾ أي : عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء. وقال ابن كيسان : طاغين نعم الله فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل.