وروي عنه أن تفسيره ما بعده وهو قوله تعالى :﴿إذا مسه﴾ أي : أدنى مس ﴿الشر﴾ أي : هذا الجنس، وهو ما تطاير شرره من الضرر ﴿جزوعاً﴾ أي : عظيم الجزع وهو ضد الصبر بحيث يكاد صاحبه ينقدّ نصفين ويتفتت ﴿وإذا مسه﴾ كذلك ﴿الخير﴾ هذا الجنس وهو ما يلائمه فيجمعه من السعة في المال وغيره من أنواع الرزق ﴿منوعاً﴾ أي : مبالغاً في الإمساك عما يلزمه من الحقوق للانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليه وقوفاً مع المحسوس لغلبة الجمود والبلادة، وهذا الوصف ضد الإيمان لأنه نصفان شكر وصبر.
فإن قيل : حاصل هذا الكلام أنه نفور عن المضارّ طالب للراحة، وهذا هو اللائق بالعقل فلم
٤٢٤
ذمه الله تعالى عليه ؟
أجيب : بأنه إنما ذمه عليه لقصور نظره على الأمور العاجلة، والواجب عليه أن يكون شاكراً راضياً في كل حال.
وقوله تعالى :﴿إلا المصلين﴾ استثناء للموصوفين بالصفات الآتية من المطبوعين على الأحوال المذكورة قبل مضادّة تلك الصفات لها من حيث إنها دالة على الاستغراق في طاعة الحق، والإشفاق على الخلق، والإيمان بالجزاء، والخوف من العقوبة، وكسر الشهوة، وإيثار العاجل على الآجل، وتلك ناشئة عن الانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليها ﴿الذين هم﴾ أي : بكلية ضمائرهم وظواهرهم ﴿على صلاتهم﴾ أي : التي هي معظم دينهم وهي النافعة لهم لا لغيرهم بما أفادته الإضافة، والمراد الجنس الشامل لجميع الأنواع إلا أن معظم المقصود الفرض، ولذلك عبر بالاسم الدال على الثبات في قوله تعالى :﴿دائمون﴾ أي : لا فتور لهم عنها ولا انفكاك لهم منها، وقال عقبة بن عامر : هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يميناً ولا شمالاً، والدائم : الساكن، ومنه نهي عن البول في الماء الدائم، أي : الساكن. وقال ابن جريج والحسن : هم الذين يكثرون فعل التطوع منها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٢٤
فإن قيل : كيف قال تعالى :﴿على صلاتهم دائمون﴾ وقال تعالى في موضع آخر :﴿على صلواتهم يحافظون﴾ (الأنعام : ٩٢)
أجيب : بأن دوامهم عليها أن لا يتركوها في وقت، ومحافظتهم عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها حتى تأتي على أكمل الوجوه من المحافظة على شرائطها، والإتيان بها في الجماعة وفي المساجد الشريفة، وفي تفريغ القلب عن الوسواس والرياء والسمعة، وأن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، وأن يكون حاضر القلب فاهماً للأذكار، مطلعاً على حكم الصلاة متعلق القلب بدخول أوقات الصلاة.
ولما ذكر تعالى زكاة الروح أتبعه زكاة عديلها، فقال تعالى مبينا للرسوخ في الوصف بالعطف بالواو :﴿والذين في أموالهم﴾ التي منّ الله سبحانه بها عليهم ﴿حق معلوم﴾ أي : من الزكوات وجميع النفقات الواجبة. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : من أدى زكاة ماله فلا جناح عليه أن لا يتصدق ﴿للسائل﴾ أي : الذي يسأل ﴿والمحروم﴾ أي : الذي لا يسأل، فيحسب غنياً فيحرم فهو يتلظى بناره في ليله ونهاره، ولا مفزع له بعد ربه المالك لعلانيته وسره إلا إلى إفاضة مدامعه بذلة وانكسار، وهذا من الله تعالى حث على تفقد أرباب الضرورات ممن لا كسب له ومن افتقر بعد الغنى، وقد كان للسلف الصالح في هذا قصب السبق، حكي عن زين العابدين أنه لما مات وجد في ظهره آثار سواد كأنها السيور، فعجبوا منها فقال بعد موته نسوة أرامل : كان شخص يأتي إلينا ليلاً بقرب الماء على ظهره وأجربة الدقيق ففقدناه واحتجنا، فعلموا أنه هو وأن تلك السيور من ذلك، وحكي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما أن شخصاً رآه ماشياً في زمن خلافته في الليل فتبعه، فجاء إلى بيت نسوة أرامل فقال : أعندكن ماء وإلا املأ لكنّ، فأعطينه جرة فأخذها
٤٢٥
وذهب فملأها على كتفه وأتى بها إليهنّ. والحكايات عنهم في هذا كثيرة.
﴿والذين يصدّقون﴾ أي : يوقعون التصديق لمن يخبرهم ويجدّدونه كل وقت ﴿بيوم الدين﴾ أي : الجزاء الذي ما مثله يوم وهو يوم القيامة الذي يقع الحساب فيه على النقير والقمطير والتصديق به حق التصديق الاستعداد له بالأعمال الصالحة، فالذين يعلمون لذلك اليوم هم العمال، وأما المصدّقون بمجرّد الأقوال فلهم الوبال وإن أنفقوا أمثال الجبال.
﴿والذين هم﴾ أي : بجميع ضمائرهم وظواهرهم ﴿من عذاب ربهم﴾ أي : المحسن إليهم لا من عذاب غيره فإن المحسن أولى بأن يخشى ولو من قطع إحسانه ﴿مشفقون﴾ أي : خائفون في هذه الدار خوفاً عظيماً هو في غاية الثبات من أن يعذبهم في الآخرة أو في الدنيا أو فيهما، فهم لذلك لا يفعلون إلا ما يرضيه سبحانه.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٢٤
إن عذاب ربهم﴾
أي : الذي هم مغمورون بإحسانه وهم عارفون بأنه قادر على الانتقام ولو بقطع الإحسان ﴿غير مأمون﴾ أي : لا ينبغي لأحد أن يأمنه بل يجوز أن يحل به وإن بالغ في الطاعة ؛ لأن الملك مالك وهو تام الملك، له أن يفعل ما شاء، ومن جوز وقوع العذاب أبعد عن موجباته غاية الإبعاد ولم يزل مترجحاً بين الخوف والرجاء.


الصفحة التالية
Icon