وقوله تعالى :﴿ليدخل الله﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال متعلق بمقدّر أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة وانتفاء العذاب ليدخل الله. قال البغوي : اللام في ﴿ليدخل﴾ متعلق بمحذوف دل عليه معنى الكلام يعني ليدخل الله ﴿في رحمته﴾ أي : في إكرامه وإنعامه ﴿من يشاء﴾ بعد الصلح قبل أن يدخولها من المشركين بأن يعطفهم إلى الإسلام، ومن المؤمنين بأن يستنقذهم منهم على أرفق وجه. وقوله تعالى :﴿لو تزيلوا﴾ يجوز أن يعود على المؤمنين فقط أو على الكافرين أو على الفريقين والمعنى لو تميز هؤلاء من هؤلاء ﴿لعذبنا﴾ أي : بأيديكم بتسليطنا لكم عليهم بالقتل والسبي ﴿الذين كفروا﴾ أي : أوقعوا ستر الإيمان ﴿منهم﴾ أي : أهل مكة ﴿عذاباً أليماً﴾ أي شديد الإيجاع. قال قتادة : في الآية أنّ الله تعالى يدفع بالمؤمنين عن الكافرين كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة.
٣٨
ولما بين شرط استحقاقهم للعذاب بين وقته وفيه بيان العلة.
فقال تعالى :﴿إذ﴾ أي : حين ﴿جعل الذين كفروا﴾ أي : ستروا ما تراءى من الحق في مرائي عقولهم وقوله تعالى :﴿في قلوبهم﴾ أي : في قلوب أنفسهم يجوز أن يتعلق بجعل على أنها بمعنى ألقى فتتعدّى لواحد أي إذ ألقى الكافرون في قلوبهم الحمية وأن يتعلق بمحذوف على أنه مفعول ثان قدّم على أنها بمعنى صير ﴿الحمية﴾ أي : المنع الشديد والإباء الذي هو في شدّة حرّه ونفوذه في أشدّ الأجسام كالسمّ والنار وأنشدوا :
*إلا إنني منهم وعرضي عرضهم ** كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشما*
وقرأ أبو عمر وفي الوصل بكسر الهاء والميم وحمزة والكسائي : بضم الهاء والميم والباقون : بكسر الهاء وضم الميم وأظهر الذال عند الجيم نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم وأدغمها الباقون وقوله تعالى :﴿حمية الجاهلية﴾ بدل من الحمية قبلها ووزنها فعلية وهي مصدر يقال حميت من كذا حمية وحمية الجاهلية : هي التي مدارها مطلق المنع سواء كان بحق أم باطل فتمنع من الإذعان للحق ومبتاها على التشفي على مقتضى الغضب لغير الله فتوجب تخطي حدود الشرع ولذلك أنفوا من دخول المسلمين مكة المشرّفة لزيارة البيت العتيق الذي الناس فيه سواء. قال مقاتل : قال أهل مكة قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخول علينا فتتحدّث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا واللات والعزى لا يدخلونها علينا فهذه حمية الجاهلية التي دخلت قلوبهم.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٤
فأنزل الله﴾ أي : الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء بسبب حميتهم ﴿سكينته﴾ أي : الشيء اللائق إضافته إليه سبحانه من الفهم عن الله والروح الموجب لسكون القلب المؤثر للإقدام على العدوّ والنصر عليه انزالاً كافياً ﴿على رسوله﴾ الذي عظمته من عظمته ففهم عن الله مراده في هذه القضية فجرى على أتم ما يرضيه ﴿وعلى المؤمنين﴾ أي : الغريقين في الإيمان لأنهم أتباع رسوله وأنصار دينه فألزمهم قبول أمره وحماهم من همزات الشياطين ولم يدخلهم ما دخل الكفار من الحمية فيقاتلوا غضباً لأنفسهم فيتعدوا حدود الشرع ﴿وألزمهم﴾ أي : المؤمنين إلزام إكرام وتشريف لا إلزام إهانة وتعنيف ﴿كلمة التقوى﴾ فإنها السبب الأقوى وهي كل قول أو فعل ناشىء عن التقوى وأعلاه كلمة الإخلاص المتقدّمة في القتال وهي لا إله إلا الله التي هي أحق الحق ولا بدّ من قول محمد رسول الله وإلا لم يتم إسلامه وعن الحسن : كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد. ومعنى إضافتها إلى التقوى إنها سبب التقوى وأساسها، وقيل : كلمة أهل التقوى وقيل هي بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله ﴿وكانوا﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿أحق بها﴾ أي : كلمة التقوى من الكفار ﴿وأهلها﴾ أي : وكانوا أهلها في علم الله تعالى لأنّ الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه أهل الخير ﴿وكان الله﴾ أي : المحيط علماً وقدرةً ﴿بكل شيء﴾ من ذلك وغيره ﴿عليماً﴾ أي : محيط العلم وروي "أنه ﷺ رأى في المنام في المدينة عام الحديبية قبل خروجه أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين ويحلقون ويقصرون فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا فلما خرجوا معه وصدّهم
٣٩
الكفار بالحديبية رجعوا وشق عليهم ذلك وراب بعض المنافقين فأنزل الله".
قوله تعالى :﴿لقد صدق الله﴾ أي : الذي لا كفؤ له المحيط بجميع صفات الكمال ﴿رسوله﴾ الذي هو أعز الخلائق عنده وهو غني عن الأخبار عما لا يكون أنه يكون فيكف إذا كان المخبر رسوله ﴿الرؤيا﴾ التي هي من الوحي أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه تعالى الله عن الكذب وعن كل قبيح علوّاً كبيراً. فحذف الجار وأوصل الفعل. كقوله تعالى :﴿صدقوا ما عاهدوا الله عليه﴾ (الأحزاب : ٢٣)