﴿فما للذين كفروا﴾ وقف أبو عمرو على الألف بعد الميم والكسائي يقف على الألف وعلى اللام، ووقف الباقون على اللام، وأما الابتداء فالجميع يبتدؤون أوّل الكلمة أي : أيّ شيء من السعادات للذين ستروا مرائي عقولهم عن الإقرار بمضمون هذا الكلام الذي هو أوضح من الشمس حال كونهم ﴿قبلك﴾ أي : نحوك أيها الرسول الكريم وفيما أقبل عليك ﴿مهطعين﴾ أي : مسرعين مع مد الأعناق وإدامة النظر إليك في غاية العجب من مقالك، هيئة من يسعى إلى أمر لا حياة له بدونه ﴿عن﴾ أي : متجاوزين إليك مكاناً عن جهة ﴿اليمين﴾ أي : منك حيث يتيمنون به ﴿وعن الشمال﴾ أي : منك وإن كانوا يتشاءمون به، وقوله تعالى :﴿عزين﴾ حال من الذين كفروا، وقيل : من الضمير في مهطعين فتكون حالاً متداخلة، أي : جماعات جماعات وحلقاً حلقاً متفرقين فرقاً شتى أفواجاً لا يتمهلون ليأتوا جميعاً. جمع عزة وأصلها عزوة لأنّ كل فرقة تعتزي إلى غير ما تعتزي إليه الأخرى فهم متفرقون قال الكميت :
*ونحن وجندل باغ تركنا ** كتائب جندل شتى عزينا*
٤٢٧
وجمع عزة جمع سلامة شذوذاً.
وقيل : كان المستهزؤون خمسة أرهط روي أنّ المشركين كانوا يجتمعون حول النبيّ ﷺ يستمعون كلامه ويستهزؤون به ويكذبونه ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فندخلها قبلهم، فردّ الله تعالى عليهم بقوله عز من قائل :﴿أيطمع﴾ أي : هؤلاء البعداء البغضاء، وعبر بالطمع إشارة إلى أنهم بلغوا الغاية في السفه لكونهم طلبوا أعز الأشياء من غير سبب تعاطوه له.
ولما كان إتيانهم على هيئة التفرق من غير انتظار جماعة لجماعة قال تعالى :﴿كل امرئ منهم﴾ أي : على انفراده ﴿أن يدخل﴾ أي : وهو كافر من غير إيمان يزكيه كما يدخل المسلم، فيستوي المسيء والمحسن ﴿جنة نعيم﴾ أي : لا شيء فيها عير النعيم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٢٧
وقوله تعالى :﴿كلا﴾ ردع لهم عن طمعهم ودخولهم الجنة، أي : لا يكون ما طمعوا فيه أصلاً ؛ لأنّ ذلك ثمن فارغ لا سبب له بما دل عليه التعبير بالطمع دون الرجاء. ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿إنا خلقناهم﴾ أي : بالقدرة التي لا يقدر أحد أن يقاومها ﴿مما يعلمون﴾ أي : أنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة كما خلق سائر جنسهم، فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة، وإنما تستوجب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى. وقيل : كانوا يستهزؤون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم فقال تعالى :﴿إنا خلقناهم ممايعلمون﴾ أي : من القذر وهو منصبهم الذي لا منصب أوضع منه ولذلك أبهم وأخفى إشعاراً بأنه منصب يستحيا من ذكره، فلا يليق بهم هذا التكبر ويدعون التقدم ويقولون : ندخل الجنة قبلهم.
قال قتادة في هذه الآية إنما خلقت يا ابن آدم من قذر، فاتّقِ الله. وروي أنّ مطرّق بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز، فقال له : يا عبد الله ما هذه المشية التي يبغضها الله تعالى ؟
فقال له : أتعرفني ؟
قال : نعم، أوّلك نطفة مزرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة فمضى المهلب وترك مشيته.
فائدة : قال ابن عربي في "الفتوحات" : خلق الله الناس على أربعة أقسام : قسم لا من ذكر ولا من أنثى وهو آدم عليه السلام، وقسم من ذكر فقط وهو حوّاء، وقسم من أنثى فقط وهو عيسى عليه السلام، وقسم من ذكر وأنثى وهو بقية الناس.
﴿فلا﴾ زيدت فيه لا ﴿أقسم برب﴾ أي : سيد ومبدع ومدبر ﴿المشارق﴾ أي : التي تشرق الشمس والقمر والكواكب السيارة، كل يوم في موضع منها على المنهاج الذي دبره والطريق والقانون الذي أتقنه وسخره ستة أشهر صاعدة وستة أشهر هابطة ﴿والمغارب﴾ كذلك وهي التي ينشأ عنها الليل والنهار والفصول الأربعة، فكان بها صلاح العالم بمعرفة الحساب وإصلاح المآكل والمشارب وغير ذلك من المآرب، فيوجد كل من الملوين بعد أن لم يكن والنبات من النجم والشجر كذلك عادة مستمرة دالة على أنه تعالى قادر على الإيجاد والإعدام لكل ما يريده من غير كلفة ما. كما قال تعالى :﴿إنا﴾ أي : على ما لنا من العظيمة ﴿لقادرون﴾.
﴿على أن نبدل﴾ أي : تبديلاً عظيماً بما لنا من الجلالة عوضاً عنهم ﴿خيراً منهم﴾ أي : بالخلق أو بتحويل الوصف فيكونون أشدّ بطشاً في الدنيا وأكثر أموالاً وأولاداً وأعلى قدراً وأكثر حشماً وجاهاً وخدماً، فيكونون عندك على قلب واحد في سماع قولك وتوقيرك وتعظيمك والسعي في كل ما يشرح صدرك بدل ما يعمل هؤلاء من الهزء والتصفيق والصفير وكل ما يضيق به صدرك،
٤٢٨
وقد فعل ذلك سبحانه بالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان بالسعة في الرزق بأخذ أموال الجبارين من كسرى وقيصر والتمكين في الأرض حتى كانوا ملوك الدنيا مع العمل بما يوجب لهم ملك الآخرة، ففرجوا الكرب عن رسول الله ﷺ وبذلوا في مرضاته الأنفس والأموال ﴿وما نحن بمسبوقين﴾ أي : لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده بوجه من الوجوه.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٢٧
فذرهم﴾
أي : اتركهم ولو على أسوأ أحوالهم ﴿يخوضوا﴾ أي : في باطلهم من مقالهم وفعالهم ﴿ويلعبوا﴾ أي : يفعلوا في دنياهم فعل اللاعب الذي لا فائدة لفعله إلا ضياع الزمان واشتغل أنت بما أمرت به ﴿حتى يلاقوا﴾ أي : يلقوا ﴿يومهم الذي يوعدون﴾ وهو يوم كشف الغطاء الذي أوّل مجيئه عند الغرغرة، وتناهيه النفخة الثانية، ودخول كل من الفريقين في داره ومحل استقراره، وهذه الآية منسوخة بآية السيف كما قاله البقاعيّ وابن عادل.
وقوله تعالى :﴿يوم يخرجون﴾ يجوز أن يكون بدلاً من يومهم أو منصوباً بإضمار أعني ﴿من الأجداث﴾ أي : القبور التي صاروا بتغييبهم فيها تحت وقع الحوافر والخف، فهم بحيث لا يدفعون شيئاً يفعل بهم بل هم كلحم في فم ماضغ، فإنّ الجدث : القبر والجدثة صوت الحافر والخف ومضغ اللحم.
وقوله تعالى :﴿سراعاً﴾ أي : نحو صوت الداعي ذاهبين إلى المحشر، حال من فاعل يخرجون جمع سريع كظراف في ظريف، وقرأ قوله تعالى :﴿كأنهم إلى نصب﴾ ابن عامر وحفص بضم النون والصاد، والباقون بفتح النون وإسكان الصاد على أنه مصدر بمعنى المفعول كما تقول هذا نصب عيني وضرب الأمير، والنصب كل ما نصب فعبد من دون الله ﴿يوفضون﴾ أي : يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إلى نصب، أي : إلى غاية وهي التي ينتصب إليها بصرك، وقال الكلبي : هو شيء منصوب علم أو راية. وقال الحسن : كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى لا يلوي أوّلهم على آخرهم.
وقوله تعالى :﴿خاشعة﴾ حال إما من فاعل يوفضون وهو أقرب، أو من فاعل يخرجون وفيه بعد منه، وفيه تعدد الحال لذي حال واحدة وفيه الخلاف المشهور. وقوله تعالى :﴿أبصارهم﴾ فاعل، والمعنى ذليلة خاضعة لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله تعالى ﴿ترهقهم﴾ أي : تغشاهم فتعمهم وتحمل عليهم، فتكلفهم كل عسر وضيق على وجه الإسراع عليهم ﴿ذلة﴾ أي : ضد ما كانوا عليه في الدنيا ؛ لأن من تعزز في الدنيا على الحق ذل في الآخرة، ومن ذل للحق في الدنيا عز في الآخرة.
﴿ذلك﴾ أي : الأمر الذي هو في غاية ما يكون من علوّ الرتبة في العظمة ﴿اليوم الذي كانوا يوعدون﴾ أي : يوعدون في الدنيا أنّ لهم فيه العذاب، وأخرج الخبر بلفظ الماضي ؛ لأنّ ما وعد الله تعالى به فهو حق كائن لا محالة، وهذا هو العذاب الذي سألوا عنه أوّل السورة، فقد رجع آخرها على أوّلها.
وما قاله البيضاويّ تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال :"من قرأ سورة سأل سائل أعطاه الله تعالى ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون". حديث موضوع.
٤٢٩
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٢٧


الصفحة التالية
Icon