ولما كان نوره مستفاداً من نور الشمس قال تعالى :﴿وجعل﴾ أي : فيها ﴿الشمس﴾ أي : في السماء الرابعة ﴿سراجاً﴾ أي : نوراً عظيماً كاشفاً لظلمة الليل عن وجه الأرض وهي في السماء الرابعة كما مرّ. وقيل : في الخامسة، وقيل : في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن عمر : أنّ الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء وأقفيتهما إلى الأرض، وجعلهما سبحانه آية على رؤية عباده المؤمنين له في الجنة.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٣٢
والله﴾ أي : الملك الأعظم الذي له الأمر كله ﴿أنبتكم﴾ أي : بخلق أبيكم آدم عليه السلام ﴿من الأرض﴾ أي : كما ينبت، وعبر بذلك تذكيراً لنا بما كان من خلق أبينا آدم عليه السلام لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض ﴿نباتاً﴾ أي : أنشأكم منها إنشاء، فاستعير الإنبات له لأنه أدل على الحدوث والتكوّن، وأصله أنبتكم فنبتم نباتاً فاختصر اكتفاء بالدلالة الالتزامية.
﴿ثم يعيدكم﴾ على التدريج ﴿فيها﴾ أي : الأرض بالموت والإقبار وإن طالت الآجال ﴿ويخرجكم﴾ أي : منها بالإعادة، وأكد بالمصدر الجاري على الفعل إشارة إلى شدّة العناية به وتحتم وقوعه لإنكارهم له فقال تعالى :﴿إخراجاً﴾ أي : غريباً ليس هو كما تعلمون بل تكونون به في غاية ما يكون من الحياة الباقية تلابس أرواحكم بها أجسامكم ملابسة لا انفكاك بعدها لا حكماً عن الآخر.
﴿والله﴾ أي : المستجمع لجميع الجلال والإكرام ﴿جعل لكم﴾ أي : نعمة عليكم اهتماماً بأمركم ﴿الأرض بساطاً﴾ أي : سهل عليكم التصرّف فيها والتقلب عليها سهولة التصرّف في البساط.
ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿لتسلكوا﴾ أي : متخذين ﴿منها﴾ أي : الأرض مجددين ذلك ﴿سبلاً﴾ أي : طرقاً واضحة مسلوكة بكثرة ﴿فجاجاً﴾ أي : ذوات اتساع لتتوصلوا إلى البلاد الشاسعة براً وبحراً، فيعم الانتفاع بجميع البقاع فالذي قدر على إحداثكم وأقدركم على التصرّف في أصلكم مع ضعفكم قادر على إخراجكم من أجداثكم التي لم تزل طوع أمره ومحل عظمته وقهره.
ولما أكثروا مع نوح عليه السلام الجدال ونسبوه إلى الضلال وقابلوه بأشنع الأقوال والأفعال.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٣٢
٤٣٤
﴿قال نوح﴾ أي : بعد رفقه بهم ولينه لهم :﴿رب﴾ أي : أيها المحسن إليّ المدبر لي المتولي لجميع أمري ﴿إنهم﴾ أي : قومي الذين دعوتهم إليك مع صبري عليهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ﴿عصوني﴾ أي : فيما أمرتهم به ودعوتهم إليه، فأبوا أن يجيبوا دعوتي وشردوا عني أشدّ شراد، وخالفوني أقبح مخالفة.
﴿واتبعوا﴾ أي : بغاية جهدهم نظراً إلى المظنون العاجل ﴿من﴾ أي : رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترين بولدانهم، وفسرهم بقوله تعالى :﴿لم يزده﴾ أي : شيئاً من الأشياء ﴿ماله﴾ أي : كثرته ﴿وولده﴾ كذلك ﴿إلا خساراً﴾ أي : بالبعد من الله تعالى في الدنيا والآخرة، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح الواوين واللام، والباقون بضم الواو الثانية وإسكان اللام.
﴿ومكروا﴾ أي : هؤلاء الرؤساء في تنفير الناس عني ﴿مكراً﴾ وزاده تأكيداً بصيغة هي النهاية في المبالغة بقوله :﴿كباراً﴾ فإنه أبلغ من كبار المخفف الأبلغ من كبير، واختلفوا في معنى مكرهم فقال ابن عباس : قالوا قولاً عظيماً. وقال الضحاك : افتروا على الله تعالى وكذبوا رسله. وقيل : منع الرؤساء أتباعهم عن الإيمان بنوح عليه السلام، فلم يدعوا أحداً منهم بذلك المكر يتبعه وحرشوهم على قتله.
﴿وقالوا﴾ أي : لهم ﴿لا تذرن﴾ أي : تتركن ﴿آلهتكم﴾ أي : عبادتها على حالة من الحالات لا قبيحة ولا حسنة، وأضافوها إليهم تحبيباً فيها ثم خصوا بالتسمية زيادة في الحث وتصريحاً بالمقصود، فقالوا مكرّرين اليمين والعامل تأكيداً :﴿ولا تذرنّ ودًّا﴾ قرأ نافع بضم الواو والباقون بفتحها، وأنشدوا بالوجهين قول الشاعر :
*حيال وودّ من هداك لقيته ** وحرض بأعلى ذي فضالة مسجد*
وقال القرطبي : قال الليث : وَدًّا بفتح الواو : صنم كان لقوم نوح، ووُدًّا بالضم : صنم لقريش وبه سمي عمرو بن وُد. وفي الصحاح والوَدّ بالفتح : الوتد في لغة أهل نجد، كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال ا. ه. ثم أعادوا النفي تأكيداً فقالوا :﴿ولا سواعاً﴾ وأكدوا هذا التأكيد وأبلغوا فيه فقالوا :﴿ولا يغوث﴾. ولما بلغ التأكيد نهايته وعلم أنّ القصد النهي عن كل فرد فرد لا عن المجموع تركوا التأكيد في قولهم :﴿ويعوق ونسرا﴾ للعلم بإرادته.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٣٤
واختلف المفسرون في هذه الأسماء فقال ابن عباس وغيره : هي أصنام وصور كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب، وهذا قول الجمهور، وقيل : إنها للعرب لم يعبدها غيرهم، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم فلذلك خصوها بالذكر بعد قولهم :﴿لا تذرنّ آلهتكم﴾ وقال عروة بن الزبير : اشتكى آدم عليه السلام وعنده بنوه ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكان ودّ أكبرهم وأبرّهم به.