عطف على قد أضلوا دعاء عليهم بعدما أعلمه الله تعالى أنهم لا يؤمنون بقوله تعالى :﴿إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن﴾، وكذلك دعا موسى وهارون عليهما السلام في الشدّ على قلوب فرعون وملئه لئلا يؤمنوا في حال ينفعهم فيه وما في قوله تعالى :﴿مما خطيئاتهم﴾ أي : من أجل خطيئاتهم مزيدة للتأكيد والتفخيم، وقرأ أبو عمرو بفتح الطاء وبعدها ألف وبعد الألف ياء وبعد الياء ألف وضم الهاء على وزن قضاياهم، والباقون بكسر الطاء وبعدها ياء تحتية ساكنة، وبعد الياء همزة مفتوحة بعدها ألف وبعد الألف تاء فوقية مكسورة وكسر الهاء على وزن قضياتهم ﴿أغرقوا﴾ أي : بالطوفان طاف عليهم جميع الأرض السهل والجبل فلم يبق منهم أحد، وكذا الكلام فيما تسبب عنه وتعقبه في قوله :﴿فأدخلوا﴾ في الآخرة التي أوّلها البرزخ يعرضون فيه على النار بكرة وعشياً ﴿ناراً﴾ أي : عظيمة جداً أخفها ما يكون من مباديها في البرزخ. قال الملوي : عذبوا في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالحرق. وقال الضحاك : في حالة واحدة كانوا يغرقون من جانب ويحترقون في الماء من جانب بقدرة الله تعالى ﴿فلم يجدوا لهم﴾ أي : عندما أناخ الله بهم سطوته، وأحل بهم نقمته ﴿من دون الله﴾ أي : الملك الأعظم الذي تضمحل المراتب تحت رتبة عظمته وتذل لعزه وجليل سطوته ﴿أنصاراً﴾ تنصرهم على من أراد بهم ذلك ليمنعوه مما أراده سبحانه من إغراقهم من غير أن يتخلف منهم أحد على كثرتهم وقوّتهم لكونهم أعداءه وإنجاء نبيه عليه السلام ومن آمن معه على ضعفهم وقلتهم لم يفقد منهم أحد لكونهم أولياءه كما أنه لم يسلم ممن أراد إغراقهم أحد على كثرتهم وقوّتهم. قال البقاعي : فمن قال عن عوج ما تقوله القصّاص فهو ضلال أشدّ ضلال، قال : وقائل ذلك هو ابن عربي صاحب الفصوص الذي لم يرد بتصنيفه إلا هدم الشريعة، وزاد في الحط عليه وعلى ابن الفارض وعلى الحلاج وعلى من شابههم، وأمر هؤلاء إلى الله تعالى، فإنه العالم بحقائق الأمور وما تخفي الصدور.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٣٤
﴿وقال نوح﴾ وأسقط الأداة كما هو عادة أهل الحضرة فقال :﴿رب لا تذر﴾ أي : لا تترك ﴿على الأرض﴾ أي : كلها ﴿من الكافرين﴾ أي : الراسخين في الكفر ﴿دياراً﴾ أي : أحداً يدور فيها وهو من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي فيعال من الدور أو الدار لا فعال وإلا لكان دواراً. قال قتادة : دعا عليهم بعد أن أوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فأجاب الله تعالى دعوته وأغرق أمّته وهذا كقول النبيّ ﷺ "اللهمّ منزل الكتاب وهازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم". وقيل : سبب دعائه أنّ رجلاً من قومه حمل ولداً صغيراً على كتفه فمرّ بنوح عليه السلام فقال : احذر هذا فإنه يضلك، فقال : يا أبت أنزلني فأنزله فرماه فشجه فحينئذ غضب ودعا عليهم.
٤٣٧
فإن قيل : ما فعل صبيانهم حين أغرقوا ؟
أجيب : بأنهم أغرقوا معهم لا على وجه العقاب ولكن كما يموتون بالأنواع من أسباب الموت وكم منهم من يموت بالغرق والحرق وكان ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمّهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون، ومنه قوله ﷺ "يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى".
وعن الحسن أنه سئل عن ذلك ؟
فقال : علم الله تعالى براءتهم فأهلكهم بغير عذاب. وقال محمد بن كعب ومقاتل : إنما قال هذا حين أخرج الله تعالى كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم وأعقم أرحام أمّهاتهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة، وقيل : بسبعين سنة فأخبر الله تعالى نوحاً عليه السلام أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمناً كما قال تعالى :﴿أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن﴾ (هود : ٣٦)
فحينئذ دعا عليهم فأجاب الله تعالى دعاءه فأهلكهم كلهم، ولم يكن فيهم صبيّ وقت العذاب لأنّ الله تعالى قال :﴿وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم﴾ (الفرقان : ٣٧)
ولم يوجد التكذيب من الأطفال. وقال ابن عربي : دعا نوح عليه السلام على الكافرين أجمعين، ودعا النبيّ ﷺ على من تحزب على المؤمنين وكفى بهذا أصلاً في الدعاء على الكافرين في الجملة، وأمّا كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه، لأنّ مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة وإنما خص النبيّ ﷺ عتبة وشيبة وأصحابه لعلمه بما لهم وما كشف الله له من الغطاء عن حالهم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٣٧
ولما كان الرسل عليهم السلام لا يقولون ولا يفعلون إلا ما كان فيه مصلحة الدين علل دعاءه بقوله :﴿إنك﴾ أي : يا رب ﴿إن تذرهم﴾ أي : تتركهم على أيّ حالة كانت في إبقائهم سالمين على وجه الأرض ولو كانت حالة دنيئة ﴿يضلوا عبادك﴾ أي : الذين آمنوا بك وبي والذين يولدون على الفطرة السليمة ﴿ولا يلدوا﴾ أي : إن قدرت بقاءهم ﴿إلا فاجراً﴾ أي : مارقاً عن كل ما ينبغي الاعتصام به ﴿كفاراً﴾ أي : بليغ الستر لما يجب إظهاره من آيات الله.
فإن قيل : بم علم أنّ أولادهم يكفرون وكيف وصفهم بالكفر عند الولادة ؟
أجيب : بأنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فعرف طباعهم وأحوالهم، وكان الرجل ينطلق بابنه إليه ويقول : احذر من هذا فإنه كذاب، وإنّ أبي حذرنيه، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك، وقد أخبر الله تعالى :﴿أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن﴾. ومعنى :﴿ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً﴾ : لم يلدوا إلا من سيفجر ويكفر فوصفهم بما يصيرون إليه كقوله ﷺ "من قتل قتيلاً فله سلبه".
ولما دعا على أعداء الله تعالى دعا لأوليائه وبدأ بنفسه فقال مسقط الأداة على عادة أهل الخصوص :﴿ربّ﴾ أي : أيها المحسن إليّ باتباع من اتبعني وتجنب من تجنبني ﴿اغفر لي﴾ أي : فإنه لا يسعني ـ وإن كنت معصوماً ـ إلا حلمك وعفوك ومغفرتك، ﴿ولوالديّ﴾ وكانا مؤمنين يريد أبويه اسم أبيه لمك بن متوشلخ، وأمّه شمخا بنت أنوش. وعن ابن عباس : لم يكفر لنوح عليه
٤٣٨
السلام أب فيما بينه وبين آدم عليه السلام، وقيل : هما آدم وحوّاء وأعاد الجار إظهاراً للاهتمام فقال :﴿ولمن دخل بيتي﴾ أي : منزلي، وقيل : مسجدي، وقيل : سفينتي ﴿مؤمناً﴾ أي : مصدّقاً بالله تعالى فمؤمناً حال، وعن ابن عباس : أي : دخل في ديني.
فإن قيل : على هذا يصير قوله :﴿مؤمناً﴾ تكراراً ؟
أجيب : بأنّ من دخل في دينه ظاهراً قد يكون مؤمناً وقد لا يكون، فالمعنى ولمن دخل دخولاً مع تصديق القلب. ﴿وللمؤمنين والمؤمنات﴾ خص نفسه أوّلاً بالدعاء، ثم من يتصل به لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عمم المؤمنين والمؤمنات إلى يوم القيامة، قاله الضحاك. وقال الكلبي : من أمّة محمد ﷺ وقيل : من قومه والأوّل أولى وأظهر.
ثم ختم الكلام مرّة أخرى بالدعاء على الكافرين فقال :﴿ولا تزد الظالمين﴾ أي : العريقين في الظلم في حال من الأحوال ﴿إلا تباراً﴾ أي : هلاكاً مدمراً والمراد بالظالمين الكافرون، فهي عامة في كل كافر ومشرك. وقيل : أراد مشركي قومه. وتباراً مفعول ثان والاستثناء مفرغ. وقيل : الهلاك الخسران.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٣٧
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري : عن النبيّ ﷺ "من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح عليه السلام" حديث موضوع.
٤٣٩
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٣٧


الصفحة التالية
Icon