وعن ابن مسعود أنه ﷺ قال :"أمرت أن أتلو القرآن على الجنّ، فمن يذهب ؟
فسكتوا ثم قال الثانية، فسكتوا ثم قال الثالثة، فقلت : أنا أذهب معك يا رسول الله. قال : فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب بن أبي ذئب خط عليّ خطاً فقال : لا تجاوزه ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل كأنهم رجال الزط ـ قال ابن الأثير في النهاية : الزط قوم من السودان والهنود، وكأنّ وجوههم المكاكي، يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها حتى غشوه ـ فغاب عن بصري فقمت فأومأ إليّ بيده أن اجلس ثم تلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع ولصقوا بالأرض حتى صرت لا أراهم". وفي رواية أخرى "قالوا لرسول الله ﷺ من أنت ؟
قال : أنا نبي. قالوا : فمن يشهد لك على ذلك، فقال : هذه الشجرة تعالي يا شجرة، فجاءت تجرّ عروقها، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه، فقال : على ماذا تشهدين فيّ ؟
قالت : أشهد أنك رسول الله، قال : اذهبي، فرجعت كما جاءت حتى صارت كما كانت. قال ابن مسعود : فلما عاد إليّ قال : أردت أن تأتيني قلت : نعم يا رسول الله. قال : ما كان ذلك لك هؤلاء الجنّ أتوا يستمعون القرآن ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزوّدتهم العظم والبعر فلا يستطيبن ـ أي يستنجي ـ أحدكم بعظم ولا بعر" وفي رواية :"أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ، فقال : هل من وضوء ؟
قال : لا إلا أنّ معي إداوة نبيذ فقال : هل هو إلا تمر وماء فتوضأ منه".
قال الرازي : وطريق الجمع بين رواية ابن عباس ورواية ابن مسعود من وجوه :
أحدها : لعل ما ذكره ابن عباس وقع أوّلاً، فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورة، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روي عن ابن مسعود أي فالواقعة متعدّدة.
ثانيها : أنها واقعة واحدة إلا أنه ﷺ ما رآهم ولا عرف ماذا قالوا ولا أيّ شيء فعلوا، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وكذا وفعلوا كذا وكذا.
ثالثها : أنها كانت واحدة وأنه ﷺ رآهم وسمع كلامهم وهم آمنوا به ثم رجعوا إلى قومهم
٤٤١
قالوا لهم على سبيل الحكاية ﴿إنا سمعنا قرآناً عجباً﴾ وكان كذا وكذا فأوحى الله تعالى إلى نبيه ﷺ ما قالوه لقومهم.
قال ابن عربي : ابن مسعود أعرف من ابن عباس لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة. وقال القرطبي : إنّ الجنّ أتوا النبيّ ﷺ دفعتين إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود، والثانية : بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس. وقال البيهقي : الذي حكاه ابن مسعود إنما هو في أوّل ما سمعت الجنّ قراءة النبيّ ﷺ وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه ابن عباس، ثم أتاه داعي الجنّ مرّة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه ابن مسعود.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٠
وقال القشيري : لما رجم إبليس بالشهب فرّق إبليس جنوده لعلم ذلك فأتى سبعة منهم بطن نخلة فاستمعوا قراءة النبي ﷺ فآمنوا، ثم أتوا قومهم فقالوا :﴿إنا سمعنا قرآناً عجباً﴾ يعني ولم يرجعوا إلى إبليس لما علموه من كذبه وسفاهته، وجاؤوا إلى النبيّ ﷺ في سبعين من قومه فأسلموا فذلك قوله تعالى :﴿وإذ صرفنا إليك نفراً﴾ (الأحقاف : ٢٩)
الآيات.
﴿فقالوا﴾ أي : فتسبب عن استماعهم أن قالوا ﴿إنا سمعنا﴾ أي : حين تعمدنا الإصغاء وألقينا إليه أفهامنا ﴿قرآنا﴾ أي : كلاماً هو في غاية الانتظام في نفسه والجمع لجميع ما يحتاج إليه، وقرأ ابن كثير بالنقل وقفاً ووصلاً وحمزة في الوقف دون الوصل والباقون بغير نقل وقفاً ووصلاً. ثم وصفوا القرآن بالمصدر مبالغة في أمره فقالوا :﴿عجباً﴾ أي : بديعاً خارجاً عن عادة أمثاله من جميع الكتب الإلهية فضلاً عن جميع الناس في جلالة النظم وإعجاز التركيب.
﴿يهدي﴾ أي : يبين غاية البيان ﴿إلى الرشد﴾ أي : الحق والصواب ﴿فآمنا﴾ أي : كل من استمع منا لم يتخلف منا أحد ولا توقف بعد الاستماع ﴿به﴾ أي : القرآن أي فاهتدينا به وصدّقنا أنه من عند الله.
﴿ولن نشرك بربنا أحداً﴾ أي : لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك، وهذا يدل على أنّ أولئك الجنّ كانوا مشركين. قال الرازي : واعلم أنّ قوله تعالى :﴿قل﴾ أمر لرسوله ﷺ أن يظهر لأصحابه ما أوحي إليه في واقعة الجنّ وفيه فوائد : أحدها : أن يعرفوا بذلك أنّ رسول الله ﷺ بعث إلى الجنّ كما بعث إلى الإنس. ثانيها : أن تعلم قريش أنّ الجنّ مع تمرّدهم لما سمعوا القرآن وعرفوا إعجازه آمنوا بالنبيّ ﷺ ثالثها : أن يعلم القوم أنّ الجنّ مكلفون كالإنس. رابعها : أن يعلم أنّ الجنّ يستمعون كلاماً تفهمه من لغتنا. خامسها : أن يظهر المؤمن منهم بدعوى غيره من الجنّ إلى الإيمان، وفي هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس.
تنبيهات :


الصفحة التالية
Icon