﴿قل﴾ أي : لهؤلاء ﴿إني﴾ وزاد في التأكيد لأنّ ذلك في غاية الاستقرار في النفوس فقال :﴿لن يجيرني﴾ أي : فيدفع عني ما يدفع المجير عن جاره ﴿من الله﴾ أي : الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه ﴿أحد﴾ أي : كائن من كان إن أرادني سبحانه بسوء ﴿ولن أجد﴾ أي : أصلاً ﴿من دونه﴾ أي : الله تعالى ﴿ملتحداً﴾ أي : معدلاً وموضع ميل وركون ومدخلاً وملتجأ وحيلة وإن اجتهدت كل الجهد، والملتحد الملجأ وأصله المدخل من اللحد وقيل : محيصاً ومعدلاً.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٧
وقوله :﴿إلا بلاغاً﴾ فيه أوجه أحدها :
أنه استثناء منقطع أي لكن إن بلغت عن الله رحمني لأنّ البلاغ عن الله لا يكون داخلاً تحت قوله ﴿ولن أجد من دونه ملتحداً﴾ لأنه لا يكون من دون الله بل يكون من الله تعالى وبإعانته وتوفيقه.
الثاني : أنه متصل وتأويله أنّ الاستجارة مستعارة من البلاغ إذ هو سببها وسبب رحمته تعالى والمعنى : لن أجد شيئاً أميل إليه واعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني، وإذا كان متصلاً جاز نصبه من وجهين :
أرجحهما أن يكون بدلاً من ﴿ملتحداً﴾ ؛ لأنّ الكلام غير موجب وهو اختيار الزجاج.
الثاني : أنه منصوب على الاستثناء.
لثالث : أنه مستثنى من قوله لا أملك، فإنّ التبليغ إرشاد وانتفاع وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة.
وقوله :﴿من الله﴾ أي : الذي أحاط بكلّ شيء قدرة وعلماً فيه وجهان أحدهما : أنّ من بمعنى عن لأن بلغ يتعدّى بها ومنه قوله ﷺ "ألا بلغوا عني". والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة لبلاغاً. قال الزمخشري : من ليست بصلة للتبليغ، وإنما هي بمنزلة من في قوله تعالى :﴿براءة من الله﴾ (التوبة : ١)
بمعنى بلاغاً كائناً من الله. وقوله ﴿ورسالاته﴾ فيه وجهان : أحدهما أنه منصوب نسقاً على بلاغاً كأنه قيل لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات ولم يقل الزمخشري غيره. والثاني أنه مجرور نسقاً على الجلالة، أي : إلا بلاغاً عن الله تعالى وعن رسالاته، كذا قدره أبو حيان وجعله هو الظاهر. ويجوز فيه جعل من بمعنى عن، والتجوّز في الحروف مذهب كوفي ومع ذلك فغير منقاس عندهم.
٤٥٢
﴿ومن يعص الله﴾ أي : الذي له العظمة كلها ﴿ورسوله﴾ الذي ختم به النبوّة والرسالة، فجعل رسالته محيطة بجميع الملل في التوحيد وغيره على سبيل الحجر ﴿فإن له﴾ أي : خاصة ﴿نار جهنم﴾ أي : التي تلقاه بالعبوسة والغيظ، وقوله تعالى :﴿خالدين فيها أبداً﴾ حال مقدّرة من الهاء في له. والمعنى : مقدّر خلودهم والعامل الاستقرار الذي تعلق به هذا الجار وحمل على معنى من فعل ذلك، فوحد أوّلاً للفظ وجمع للمعنى. وأكد بقوله تعالى :﴿فيها﴾ ردًّا على من يدعي الانقطاع. قال البقاعي : وأمّا من يدعي أنها لا تحرق وأنّ عذابها عذوبة فليس أحد أجنّ منه إلا من تابعه على ضلاله وغيه ومحاله، وليس لهم دواء إلا السيف في الدنيا والعذاب في الآخرة بما سموه عذوبة وهم صائرون إليه وموقوفون عليه.
وحتى في قوله تعالى :﴿حتى إذا رأوا﴾ ابتدائية فيها معنى الغاية لمقدر قبلها أي لا يزالون على كفرهم إلى أن يروا ﴿ما يوعدون﴾ من العذاب في الآخرة أو في الدنيا كوقعة بدر ﴿فسيعلمون﴾ أي : في ذلك اليوم بوعد لا خلف فيه ﴿من أضعف ناصراً﴾ أي : من جهة الناصر أنا وإن كنت في هذا الوقت وحيداً مستضعفاً أو هم ﴿وأقل عدداً﴾ وإن كانوا الآن بحيث لا يحصيهم عدداً إلا الله تعالى، فيالله ما أعظم كلام الرسل حيث يستضعفون أنفسهم ويذكرون قوّتهم من جهة مولاهم الذي بيده الملك، وله جنود السموات والأرض بخلاف الجبابرة، فإنهم لا كلام لهم إلا في تعظيم أنفسهم وازدراء غيرهم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٧
قال مقاتل : لما سمعوا قوله تعالى :﴿حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً﴾ قال النضر بن الحارث : متى يكون هذا الذي توّعدنا به، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
﴿قل﴾ أي : لهؤلاء في جوابهم بإتيانهم العذاب وسألوا استهزاء عن وقت وقوعه ﴿إن﴾ أي : ما ﴿أدري﴾ بوجه من الوجوه ﴿أقريب ما توعدون﴾ أي : فيكون الآن أو قريباً من هذا الأوان بحيث يتوقع عن قرب، وقوله ﴿أم يجعل﴾ أي : أم بعيد يجعل ﴿له﴾ أي : لهذا الوعد ﴿ربي﴾ أي : المحسن إليّ إن قدمه أو أخره ﴿أمداً﴾ أي : أجلاً مضروباً فلا يتوقع دون ذلك الأمد فهو في كل حال متوقع، فكونوا على غاية الحذر لأنه لا بدّ من وقوعه لا كلام فيه، وإنما الكلام في تعيين وقته وليس إليّ.
فإن قيل : أليس إنه ﷺ قال :"بعثت أنا والساعة كهاتين" فكان عالماً بقرب وقوع القيامة فكيف قال ههنا لا أدري أقريب أم بعيد ؟
أجيب : بأنّ المراد بقرب وقوعه هو أنّ ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى، فهذا القدر من القرب معلوم، فأمّا معرفة مقدار القرب المرتب وعدم ذلك فغير معلوم.