إحداهما : الملاطفة فإنّ العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها كقول النبيّ ﷺ لعليّ حين غاضب فاطمة رضي الله تعالى عنهما فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب، فقال له : قم أبا تراب" إشعاراً له بأنه غير عاتب عليه وملاطفة له، وكذلك "قوله ﷺ لحذيفة : قم يا نومان" وكان نائماً ملاطفة له وإشعاراً بترك العتب والتأنيب، فقول الله تعالى لمحمد ﷺ ﴿يا أيها المزمل قم﴾ فيه تأنيس له وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب عليه.
والفائدة الثانية : التنبيه لكل متزمل راقد ليله أن يتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه ؛ لأنّ الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة، والليل مدّة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. قال القرطبي : واختلف هل كان قيامه فرضاً أو نفلاً ؟
والدلائل تقوّي أنّ قيامه كان فرضاً ؛ لأنّ المندوب لا يقع على بعض الليل دون بعض، لأنّ قيامه ليس مخصوصاً بوقت دون وقت.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٥٧
واختلف هل كان فرضاً على النبيّ ﷺ وحده ؟
أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء ؟
أو عليه وعلى أمته ؟
على ثلاثة أقوال : الأوّل قول سعيد بن جبير رضي الله عنه لتوجه الخطاب إليه.
٤٥٩
الثاني : قول ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان قيام الليل فريضة على النبيّ ﷺ والأنبياء قبله. والثالث : قول عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أيضاً أنه كان فرضاً عليه وعلى أمته لما روى مسلم أنّ هشام بن عامر قال لعائشة رضي الله عنها : أنبئيني عن قيام رسول الله ﷺ فقالت :"ألست تقرأ يا أيها المزمل، فقلت : بلى. فقالت : فإنّ الله عز وجل افترض قيام الليل في أوّل هذه السورة، فقام نبيّ الله ﷺ وأصحابه حولاً وأمسك الله عز وجل خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله عز وجلّ في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوّعاً بعد فريضة" وقيل : عسر عليهم تمييز القدر الواجب، فقاموا الليل كله، وشق عليهم فنسخ بقوله تعالى آخرها :﴿فاقرؤوا ما تيسر من القرآن﴾ وكان بين الوجوب ونسخه سنة، وقيل : نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد حتى نسخ بالمدينة.
وروى وكيع ويعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت ﴿يا أيها المزمل﴾ كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها وكان بين نزول أوّلها وآخرها نحواً من سنة. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه : مكث النبيّ ﷺ وأصحابه عشر سنين يقومون الليل، فنزلت بعد عشر سنين ﴿إنّ ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل﴾ فخفف الله تعالى عنهم. وقيل : كان قيام الليل واجباً ثم نسخ بالصلوات الخمس.
والصحيح أنه ﷺ بعث يوم الإثنين في رمضان وهو ابن أربعين سنة، وقيل : ثلاث وأربعين وآمنت به خديجة رضي الله عنها ثم بعدها قيل : عليّ رضي الله عنه وهو ابن تسع سنين، وقيل : ابن عشر. وقيل : أبو بكر، وقيل : زيد بن حارثة، ثم أمر بتبليغ قومه بعد ثلاث من مبعثه، فأوّل ما فرض عليه ﷺ بعد الإنذار والدعاء إلى التوحيد من قيام الليل ما ذكر في أوّل السورة، ثم نسخ بما في آخرها ثم نسخ بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء إلى بيت المقدس بمكة بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر ليلة سبع وعشرين من رجب، هذا ما ذكره النووي في روضته.
وقال في فتاويه : بعد النبوة بخمس أو ست وجعل الليلة من ربيع الأول وخالفهما في شرح مسلم وجزم بأنها من ربيع الآخر وقلد فيها القاضي عياضاً، والذي عليه الأكثر ما في الروضة واستمرّ يصلي إلى بيت المقدس مدّة إقامته بمكة وبعد الهجرة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر، ثم أمر باستقبال الكعبة، ثم فرض الصوم بعد الهجرة بسنتين تقريباً وفرضت الزكاة بعد الصوم، وقيل : قبله، وفي السنة الثانية قيل : في نصف شعبان. وقيل : في رجب حوّلت القبلة، وفيها فرضت صدقة الفطر، وفيها ابتدأ ﷺ صلاة عيد الفطر ثم عيد الأضحى، ثم فرض الحج سنة ست وقيل : سنة خمس ولم يحج ﷺ بعد الهجرة إلا حجة الوداع، واعتمر أربعاً وتوفيّ ﷺ يوم الإثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٥٧
فائدة : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم معصومون قبل النبوة من الكفر وفي المعاصي خلاف وبعدها من الكبائر وكذا من الصغائر ولو سهواً عند المحققين.
وقوله تعالى ﴿نصفه﴾ بدل من قليلاً وقلته بالنظر إلى الكل ﴿أو انقص منه﴾ أي : من النصف ﴿قليلاً﴾ أي : الثلث ﴿أو زد عليه﴾ أي : على النصف إلى الثلثين، وأو للتخيير فكان ﷺ مخيراً بين
٤٦٠