وقيل :﴿ثقيلاً﴾ بمعنى : أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ومعانيه بالكلية فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته، والفقهاء بحثوا في أحكامه، وكذا أهل اللغة والنحو وأرباب المعاني، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه بفوائد ما وصل إليها المتقدّمون، فعلمنا أنّ الإنسان الواحد لا يقوى على الاستقلال بحمله، فصار كالجبل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٥٧
والأولى أن تحمل هذه المعاني كلها فيه. وقيل : المراد هو الوحي كما جاء في الخبر "أنّ النبيّ ﷺ كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها أي : صدرها على الأرض فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرّى عنه". وعن الحارث بن هشام أنه سأل النبيّ ﷺ كيف يأتيك الوحي ؟
فقال النبيّ ﷺ أحياناً يأتيني في مثل صلصلة الجرس، وهذا أشدّ عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة رضي الله عنها : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصد عرقاً، أي : يجري عرقه كما يجري الدم من الفاصد. وقوله فينفصم عني أي : ينفصل عني ويفارقني، وقد وعيت أي :
٤٦٢
حفظت ما قال. وقال القشيري : القول الثقيل هو قول لا إله إلا الله لأنه ورد في الخبر :"لا إله إلا الله خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان". وقال الزمخشري : هذه الآية اعتراض ثم قال : وأراد بهذا الاعتراض أنّ ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن لأنّ الليل وقت السبات والراحة والهدوء، فلا بدّ لمن أحياه من مضارّة لطبعه ومجاهدة لنفسه ا. ه. فالاعتراض من حيث المعنى لا من حيث الصناعة، وذلك أنّ قوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٥٧
﴿إنّ ناشئة الليل﴾ أي : القيام بعد النوم ﴿هي أشدّ وطأ﴾ أي : موافقة السمع للقلب على تفهم القرآن هي أشدّ مطابق لقوله :﴿قم الليل﴾ فكأنه شابه الاعتراض من حيث دخوله بين هذين المناسبين، والمعنى : سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل قولاً ثقيلاً يثقل حمله ؛ لأنّ الليل للمنام، فمن أمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل مشقة شديدة على النفس ومجاهدة الشيطان، فهو أمر ثقيل على العبد.
ولما كان التهجد يجمع القول والفعل وبين ما في الفعل لأنه أشق فكان بتقديم الترغيب بالمدحة أحق أتبعه القول فقال :﴿وأقوم قيلاً﴾ أي : وأعظم سداداً من جهة القيل في فهمه ووقعه في القلوب لحضور القلب، لأنّ الأصوات هادية والدنيا ساكتة فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه، وقال قتادة ومجاهد رضي الله عنهم : أصوب للقراءة وأثبت للقول لأنه زمان التفهم لرياقة الليل بهدوء الأصوات وتجلي الرب سبحانه بحصول البركات وأخلص من الرياء، فبين الله تعالى بهذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النهار وأنّ الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر وأجلب للثواب.
كان عليّ بن الحسين رضي الله عنه يصلي بين المغرب والعشاء ويقول : هو ناشئة الليل. وقال عطاء وعكرمة رضي الله عنهم : هو بدء الليل. وقال في الصحاح : ناشئة الليل أوّل ساعاته، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هي الليل كله لأنه ينشأ بعد النهار وهو اختيار مالك، قال ابن عربي : وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة، وقالت عائشة وابن عباس أيضاً ومجاهد رضي الله عنهم : إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم ومن قام قبل النوم فما قام ناشئة. وقال يمان بن كيسان : هو القيام من آخر الليل.
وأما قوله تعالى :﴿أشدّ وطأ﴾ أي : أثقل على المصلي من ساعات النهار، لأنّ الليل وقت منام وراحة فإذا قام إلى صلاة الليل فقد تحمل المشقة العظيمة، هذا على قراءة كسر الواو وفتح الطاء، وبعدها ألف ممدودة وهمزة منوّنة، وهي قراءة أبي عمرو وابن عامر، وقرأ الباقون بفتح الواو وسكون الطاء وبعدها همزة منونة فهي مصدر وطأت وطأ ومواطأة أي : وافقت على الأمر من الوفاق تقول : فلان يواطئ اسمه اسمي، أي : يوافقه، فالمعنى أشدّ موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان لانقطاع الأصوات والحركات قاله مجاهد وغيره قال تعالى :﴿ليواطئوا عدّة ما حرّم الله﴾ (التوبة : ٣٧)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٦٣
أي : ليوافقوا ومنه قوله ﷺ "اللهمّ اشدد وطأتك على مضر" وقيل : أشدّ
٤٦٣
مهاداً للتصرّف في الفكر والتدبر. وقيل : أشدّ ثباتاً من النهار، فإنّ الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله، فيكون ذلك أثبت للعمل، والوطء الثبات تقول : وطأت الأرض بقدمي وفي الجملة عبادة الليل أشدّ نشاطاً وأتم إخلاصاً وأكثر بركة وأبلغ في الثواب.