قال البقاعي : وليس ذلك بأن يترك الإنسان كل عمل، فإن ذلك طمع فارغ، بل بالإجمال في طلب كل ما ندب الإنسان إلى طلبه ليكون متوكلاً في السبب لا من دون سبب، فإنه يكون حينئذ كمن يطلب الولد من غير زوجة وهو مخالف لحكمة هذه الدار المبنية على الأسباب، ولو لم يكن في إفراده بالوكالة إلا أنه يفارق الوكلاء بالعظمة والشرف والرفق من جميع الوجوه، فإن وكيلك من الناس دونك وأنت تتوقع أن يكلمك كثيراً في مصالحك وربك أعظم العظماء وهو يأمرك بأن تكلمه
٤٦٥
كثيراً في مصالحك وتسأله طويلاً، ووكيلك من الناس إذا حصل مالك سألك الأجرة وهو سبحانه يوفر مالك ويعطيك الأجر، ووكيلك من الناس ينفق عليك من مالك وهو سبحانه يرزقك وينفق عليك من ماله.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٦٣
ومن تمسك بهذه الآية عاش حرًّا كريماً ومات خالصاً شريفاً ولقي الله تعالى عبداً صافياً مختاراً تقياً، ومن شرط الموحد أن يتوجه إلى الواحد ويقبل عليه ويبذل له نفسه ويفوّض إليه أمره ويترك التدبير ويثق به ويركن إليه ويتذلل لربوبيته ويتواضع لعظمته.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٦٣
﴿واصبر على ما يقولون﴾ أي : المخالفون المفهومون من الوكالة من الأذى والسب والاستهزاء، ولا تجزع من قولهم ولا تمتنع من دعواهم وفوّض أمرهم إليّ، فإني إذا كنت وكيلاً لك أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بأمور نفسك ﴿واهجرهم﴾ أي : أعرض عنهم ﴿هجراً جميلاً﴾ أي : لا تتعرّض لهم ولا تشتغل بمكافأتهم، فإنّ ذلك ترك للدعاء إلى الله تعالى، وكان هذا قبل الأمر بالقتال، فإنه ﷺ منع في أوّل الإسلام من قتال الكفار وأمر هو وأصحابه بالصبر على أذاهم بقوله تعالى :﴿لتبلونّ في أموالكم﴾ (آل عمران : ١٨٦)
الآية، ثم أمر به إذا ابتدؤوا بقوله تعالى :﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم﴾ (البقرة : ١٩٠)
ثم أبيح له ابتداؤه في غير الأشهر الحرم، ثم أمر به مطلقاً من غير تقييد بشرط ولا زمان بقوله تعالى :﴿واقتلوهم حيث ثقفتموهم﴾ (البقرة : ١٩١)
﴿وذرني﴾ أي : اتركني ﴿والمكذبين﴾ أي : لا تحتاج إلى الظفر بمرادك ومشتهاك إلا أن تخلي بيني وبينهم بأن تكل أمرهم إليّ وتستكفينيه، فإن فيّ ما يفرغ بالك، ويجلي همك وليس ثمّ منع حتى تطلب إليه أن تذره وإياه إلا ترك الاستكفاء والتفويض، كأنه إذا لم يكل إليه أمره فكأنه منعه منه فإذا وكله إليه فقد أزال المنع وتركه وإياه وفيه دليل على الوثوق بأنه يتمكن من الوفاء بأقصى ما تدور حوله أمنية المخاطب وبما يزيد عليه.
واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال مقاتل : نزلت في المطعمين يوم بدر، وهم عشرة فلم يكن إلا يسيراً حتى قتلوا ببدر. وقال يحيى بن سلام : إنهم بنو المغيرة. وقال سعيد بن جبير : أخبرت أنهم اثنا عشر رجلاً، وقال البغوي : نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٦٦
وقوله تعالى :﴿أولي النعمة﴾ نعت للمكذبين أي أصحاب التنعم والترفه.
فائدة : النعمة بالفتح التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرّة.
٤٦٦
﴿ومهلهم﴾ أي : اتركهم برفق وتأنّ وتدريج ولا تهتم بشأنهم. وقوله تعالى :﴿قليلاً﴾ نعت لمصدر، أي : تمهيلاً قليلاً أو لظرف زمان محذوف أي زماناً قليلاً فقتلوا بعد يسير ببدر.
وقوله تعالى :﴿إنّ لدينا أنكالاً﴾ جمع نكل بالكسر وهو القيد الثقيل الذي لا ينفك أبداً وقال الكلبي : أغلالاً من حديد ﴿وجحيماً﴾ أي : ناراً حامية جدًّا شديدة الاتقاد مما كانوا يتقيدون به من تبريد الشراب والتنعم برقيق اللباس وتكلف أنواع الراحة.
﴿وطعاماً ذا غصة﴾ أي : يغص به في الحلق وهو الزقوم أو الضريع أو الغسلين أو الشوك من نار لا يخرج ولا ينزل ﴿وعذاباً أليماً﴾ أي : مؤلماً. ومعنى الآية : أنّ لدينا في الآخرة ما يضادّ تنعمهم في الدنيا وهي هذه الأمور الأربعة : النكال والجحيم والطعام الذي يغص به والعذاب الأليم، والمراد به سائر أنواع العذاب، وروي أنه ﷺ قرأ هذه الآية فصعق.
وعن الحسن أنه أمسى صائماً فأتي بطعام فعرضت له هذه الآية، فقال : ارفعه ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال : ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة فأخبر ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فجاؤوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق.


الصفحة التالية
Icon