ثم أشار إلى إخلاصهم بقوله تعالى ﴿يبتغون﴾ أي : يطلبون بذلك وغيره من جميع أحوالهم بغاية جهدهم تغليباً لعقولهم على شهواتهم وحظوظهم ﴿فضلاً﴾ أي : زيادة من الخير ﴿من الله﴾ أي : الذي له الإحاطة بصفات الكمال من الجلال والجمال الذي أعطاهم ملكة العظمة على الكفار بما وهبهم من جلاله والرأفة على أوليائه ﴿ورضواناً﴾ أي : رضاً منه عظيماً بما نالهم من رحمته التي هيأهم بها للإحسان إلى عياله فنزعوا الهوى من صدورهم فصاروا يرونه وحده سيدهم المحسن
٤٢
إليهم لا يرون سيداً غيره ولا محسن سواه.
ثم بين كثرة صلاتهم. بقوله تعالى :﴿سيماهم﴾ أي : علامتهم التي لا تفارقهم ﴿في وجوههم﴾ ثم بين تعالى العلامة بقوله ﴿من أثر السجود﴾ وهو نور وبياض في وجوههم يوم القيامة كما قال تعالى ﴿يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه﴾ (آل عمران : ١٠٦)
رواه عطية العوفيّ عن ابن عباس. وعن أنس هو استنارة وجوههم من كثرة صلاتهم. وقال شهر بن حوشب : تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقال مجاهد هو السمت الحسن والخشوع والتواضع والمعنى أنّ السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به. وقال الضحاك : هو صفرة الوجه. وقال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال عكرمة : هو أثر التراب على الجباه. قال أبو العالية : لأنهم يسجدون على التراب لا على الثياب. وقال عطاء : استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل لأنّ من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.
قال بعضهم : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس. قال البقاعي : ولا يظن أنّ من السيما ما يصنعه بعض المرائين من أثر هيئة السجود في جبهته فإنّ ذلك من سيما الخوارج. وفي نهاية ابن الأثير في تفسير الثقات ومنه حديث أبي الدرداء أنه رأى رجلاً بين عينيه مثل ثغنة البعير فقال : لو لم يكن هذا كان خيراً يعني كان على جبهته أثر السجود وإنما كرهها خوفاً من الرياء عليه. وعن أنس عن النبيّ ﷺ أنه قال :"إني لأبغض الرجل وأكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود" وعن بعض المتقدّمين : كنا نصلي فلا يرى بين أعيننا شيء ونرى أحدنا الآن يصلي فيرى بين عينيه ركبة البعير فلا ندري أثقلت الرؤوس أم خشنت الأرض. وإنما أراد بذلك من تعمد ذلك للنفاق ثم أشار تعالى إلى علو مرتبة ذلك الوصف بقوله سبحانه :
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٢
ذلك﴾ أي : هذا الوصف العالي جداً البديع المثال البعيد المنال ﴿مثلهم﴾ أي : صفتهم ﴿في التوراة﴾ وههنا تم الكلام فإن مثلهم : مبتدأ وخبره في التوراة وقوله تعالى :﴿ومثلهم في الإنجيل﴾ أي : الذي نسخ الله تعالى به بعض أحكام التوراة مبتدأ وخبره ﴿كزرع﴾ أي : مثل زرع ﴿أخرج شطأه﴾ أي : فراخه يقال أشطأ الزرع إذا فرخ وهل يختص ذلك بالحنطة فقط أو بها وبالشعير أو لا يختص خلاف مشهور قال الشاعر :
*أخرج الشطأ على وجه الثرى
** ومن الأشجار أفنان الثمر
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان : بفتح الطاء والباقون بإسكانها. وهما لغتان كالنهر والنهر وأدغم أبو عمرو الجيم في الشين بخلاف عنه ثم سبب عن هذا الإخراج قوله تعالى :﴿فآزره﴾ أي : قواه وأعانه. وقرأ ابن ذكوان : بقصر الهمزة بعد الفاء والباقون بالمدّ. ﴿فاستغلظ﴾ أي : فطلب المذكور من الزرع والشطء الغلظ وأوجده فتسبب عن ذلك اعتداله ﴿فاستوى﴾ أي : قوى واستقام وقوله تعالى :﴿على سوقه﴾ متعلق باستوى ويجوز أن يكون حالاً أي كائناً على سوقه أي قائماً عليها، هذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب محمد ﷺ في الإنجيل أنهم يكونون قليلاً ثم يزدادون ويكثرون.
قال قتادة : مثل أصحاب محمد ﷺ في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع
٤٣
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وقيل : الزرع محمد ﷺ والشطء : أصحابه والمؤمنون. وروى مبارك بن فضالة عن الحسن قال محمد رسول الله ﷺ والذين معه أبو بكر الصدّيق. أشدّاء على الكفار : عمر بن الخطاب. رحماء بينهم : عثمان بن عفان. تراهم ركعاً سجداً : علي بن أبي طالب يبتغون فضلاً من الله العشرة المبشرون بالجنة كمثل زرع محمد ﷺ أخرج شطأه أبو بكر فآزره عمر، فاستغلظ عثمان يعني استغلظ عثمان بالإسلام، فاستوى على سوقه علي بن أبي طالب رضى الله عنه استقام الإسلام بسيفه.
﴿يعجب الزرّاع﴾ قال : المؤمنون ﴿ليغيظ بهم الكفار﴾ قول عمر لأهل مكة بعدما أسلم : لا يعبد الله سراً بعد اليوم روى أنس بن مالك عن النبيّ ﷺ قال :"أرحم أمّتي أبو بكر، وأشدّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأفرضهم زيد، وأقرؤهم أبيّ، وأعلمهم بالحرام والحلال معاذ بن جبل، ولكل أمّة أمين وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة بن الجرّاح" وفي رواية أخرى وأقضاهم علي وروى بريدة عن النبيّ ﷺ قال :"من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة".
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٢
تنبيه : يعجب حال أي معجباً وهنا تم الكلام.
وقوله تعالى ﴿ليغيظ بهم الكفار﴾ فيه أوجه : أحدها : أنه متعلق بمحذوف دل عليه تشبيههم بالزرع في نمائهم وقوّتهم. قال الزمخشري : أي شبههم الله تعالى بذلك ليغيظ. ثانيها : أنه متعلق بما دل عليه قوله تعالى ﴿أشدّاء﴾ متعلق على الكفار الخ أي : جعلهم بهذه الصفات ليغيظ. ثالثها : أنه متعلق بقوله تعالى :﴿وعد الله﴾ أي : الملك الأعظم ﴿الذين آمنوا﴾ لأنّ الكفار إذا سمعوا بعزة المؤمنين في الدنيا وما أعدّ الله لهم في الآخرة غاظهم ذلك. وقوله تعالى :﴿وعملوا الصالحات﴾ فيه إشارة إلى تصديق دعواهم ومن في قوله تعالى :﴿منهم﴾ للبيان لا للتبعيض لأنهم كلهم كذلك فهي كقوله تعالى :﴿فاجتنبوا الرجس من الأوثان﴾ (الحج : ٣٠)
ولما كان الإنسان وإن اجتهد مقصراً عما يجب لله تعالى من العبادة. أشار إلى ذلك بقوله تعالى :﴿مغفرة﴾ أي : لما يقع منهم من الذنوب والهفوات ﴿وأجراً عظيماً﴾ بعد ذلك الستر وهو الجنة. وهما أيضاً لمن بعدهم ممن يأتي.
فائدة قد جمعت هذه الآية الخاتمة لهذه السورة جميع حروف المعجم وفي ذلك بشارة تلويحية مع ما فيها من البشائر التصريحية باجتماع أمرهم وعلوّ نصرهم رضى الله عنهم وحشرنا معهم نحن ووالدينا ومحبينا وجميع المسلمين بمنه وكرمه.
قال : وهذا آخر القسم الأوّل من القرآن، وهو المطوّل وقد ختم كما ترى بسورتين هما في الحقيقة للنبيّ ﷺ وحاصلهما : الفتح بالسيف والنصر على من قاتله ظاهراً. كما ختم القسم الثاني المفصل بسورتين هما : نصره له ﷺ بالحال على من قصده بالضر باطناً وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال :"من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع رسول الله ﷺ فتح مكة" حديث موضوع. وقال ابن عادل : روى أنّ من قرأ في أوّل ليلة من رمضان ﴿إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً﴾ في التطوّع حفظ في ذلك العام ولم أره لغيره ا. ه.
٤٤
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٢