وقوله تعالى :﴿ثم نظر﴾ عطف على فكر وقدر والدعاء اعتراض بينهما والنظر إما في وجوه قومه وإما فيما يقدح به في القرآن.
﴿ثم عبس ﴾أي : قبض وجهه وكلحه ونظر مع تقبض جلد وما بين العينين بكراهة شديدة كالمهتم للتفكر في شيء وهو لا يجد فيه فرجاً لأنه ضاقت عليه الحيل لكونه لم يجد فيما جاء به النبي ﷺ مطعناً. وقيل : عبس وجهه في وجوه المؤمنين، وذلك أنه لما قال لقريش : إن محمداً ساحر مرّ على جماعة من المسلمين، فدعوه إلى الإسلام فعبس في وجوههم. وقيل : عبس على النبي ﷺ حين دعاه ﴿وبسر﴾ أي : زاد في القبض والكدح، يقال : وجه باسر، أي : منقبض أسود كالح متغير اللون قاله قتادة.
﴿ثم ﴾ أي : بعد هذا التروي العظيم ﴿أدبر﴾ أي : عما أداه إليه فكره من الإيمان بسلامة المنظور فيه وعلوّه عن المطاعن فحاد عن وجوه الأفكار إلى أقفيتها ﴿واستكبر﴾ أي : أوجد الكبر عن الاعتراف بالحق إيجاد من هو في غاية الرغبة فيه.
﴿فقال﴾أي : عقب ما جرّه إليه طبعه الخبيث من إيقاع الكبر على هذا الوجه لكونه رآه نافعاً لهم في الدنيا ﴿إن﴾ أي : ما ﴿هذا﴾ أي : الذي أتى به محمد ﷺ ﴿إلا سحر﴾ أي : أمور تخييلية لا حقائق لها وهي لدقتها بحيث تخفى أسبابها، أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وماله وولده
٤٨٢
ومواليه، فما هو إلا سحر ﴿يؤثر﴾ أي : من شأنه أن ينقله السامع عن غيره، فهو ينقله من مسيلمة وأهل بابل كما قال :
﴿إن﴾ أي : ما ﴿هو﴾ أي : القرآن ﴿إلا قول البشر﴾ أي : ليس فيه شيء عن الله تعالى فلا يغتر أحد به ولا يعرج عليه فارتج النادي فرحاً، ثم تفرّقوا معجبين بقوله متعجبين منه قيل : وهذا شبيه بما قال بعضهم :
*لو قيل كم خمس وخمس لاغتدى ** يوماً وليلته يعدّ ويحسب*
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٨١
ويقول معضلة عجيب أمرها ** ولئن فهمت لها لأمري أعجب*
*خمس وخمس ستة أو سبعة ** قولان قالهما الخليل وثعلب
** *
فكان قوله هذا سبب هلاكه فكان كما قال بعضهم :
*احفظ لسانك أيها الإنسان ** لا يلدغنك إنه ثعبان*
*كم في المقابر من قتيل لسانه ** كانت تهاب لقاءه الشجعان*
وقوله تعالى :﴿سأصليه﴾ أي : أدخله ﴿سقر﴾ أي : جهنم بوعد لا بدّ منه عن قريب بدل من ﴿سأرهقه صعوداً﴾.
وقوله تعالى :﴿وما أدراك ما سقر﴾ تعظيم لشأنها.
وقوله تعالى :﴿لا تبقي ولا تذر﴾ بيان لذلك أو حال من سقر، والعامل فيها معنى التعظيم، والمعنى : لا تبقي شيئاً يلقى فيها إلا أهلكته، فإذا أهلكته لم تذره هالكاً حتى يعاد أو لا تبقي على شيء ولا تدعه من الهلاك، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة، وسميت سقر من سقرته الشمس إذا أذابته، ولا تنصرف للتعريف والتأنيث. قال ابن عباس : سقر اسم للطبقة السادسة، فإنّ درك النار سبعة جهنم ولظى والحطمة والسعير والجحيم وسقر والهاوية.
﴿لوّاحة﴾ من لوح الهجير قال :
*تقول ما لاحك يا مسافر ** يا ابنة عمي لاحني الهواجر
﴿للبشر﴾ أي : محرقة لظاهر الجلد فتدعه أشدّ سواداً من الليل قال تعالى :﴿تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون﴾ (المؤمنون : ١٠٤)
والبشر أعالي البشرة وهو جمع بشرة وجمع البشر أبشار. وعن الحسن : تلوح للناس كقوله تعالى :﴿ثم لترونها عين اليقين﴾ (التكاثر : ٧)
وقيل : اللوح شدة العطش يقال : لاحه العطش ولوحه، أي : غيره. وقال الأخفش : والمعنى : أنها معطشة للبشر، أي : لأهلها وأنشد :
*سقتني على لوح من الماء شربة ** سقاها من الله الرهام النواديا*
يعني باللوح شدّة العطش والرّهام جمع رهمة بالكسر وهي المطرة الضعيفة، وأرهمت السحابة أتت بالرهام.
٤٨٣
﴿عليها تسعة عشر﴾ أي : من الملائكة وهم خزنتها مالك ومعه ثمانية عشر، وقيل : التسعة عشر نقباء. وقال أكثر المفسرين : تسعة عشر ملكاً بأعيانهم. وقيل : تسعة عشر ألف ملك. قال ابن جريج : نعت النبيّ ﷺ خزنة جهنم فقال :"أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالصياصي، وأشعارهم تمس أقدامهم يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، نزعت منهم الرحمة، يدفع أحدهم سبعين ألفاً فيرميهم حيث أراد من جهنم". قال عمرو بن دينار : إنّ واحداً منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. قال ابن الأثير : الصياصي قرون البقر.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٨١
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمّهاتكم أسمع ابن أبي كبشة يخبر أنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ـ يعني الشجعان ـ أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من خزنة جهنم ؟
فقال أبو الأشد بن كلدة بن خلف الجمحي : أنا أكفيكم منهم سبعة عشر، عشرة على ظهري وسبعة على بطني فاكفوني أنتم اثنين. وروي أنه قال : أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وسبعة بمنكبي الأيسر في النار، ونمضي فندخل الجنة، فأنزل الله عز وجل :