جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٨٤
أي : حديثها والخبر عنها. وقال الرازي : إنما سموه مثلاً لأنه لما كان هذا العدد عدداً عجيباً ظنّ القوم أنه ربما لم يكن مراد الله تعالى منه ما أشعر به ظاهره، بل جعله مثلاً لشيء آخر وتنبيهاً على مقصود آخر لا جرم سموه مثلاً على سبيل الاستعارة لأنهم لما استغربوه ظنوا أنه ضرب مثلاً لغيره، ومثلاً تمييز أو حال وتسمية هذا مثلاً على سبيل الاستعارة لغرابته.
ولما كان التقدير أراد بهذا إضلال من ضل وهو لا يبالي وهداية من اهتدى وهو لا يبالي كان
٤٨٥
كأنه قيل : هل يفعل مثل ذلك في غير هذا فقال تعالى :﴿كذلك﴾ أي : مثل هذا المذكور من الإضلال والهداية ﴿يضل الله﴾ أي : الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز ﴿من يشاء﴾ بأي كلام شاء، كإضلال الله تعالى أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم ﴿ويهدي﴾ بقدرته التامّة ﴿من يشاء﴾ بنفس ذلك الكلام أو بغيره كهداية أصحاب محمد ﷺ وهذه الآية تدل على مذهب أهل السنة لأنه تعالى قال في أوّل الآية ﴿وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا﴾ الخ، ثم قال تعالى :﴿كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء﴾.
﴿وما يعلم جنود ربك﴾ أي : المحسن إليك بأنواع الإحسان المدبر لأمرك ﴿إلا هو﴾ أي : الله سبحانه وتعالى. قال مقاتل رضي الله عنه : وهذا جواب لأبي جهل حيث قال : ما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر. وقال مجاهد رضي الله عنه :﴿وما يعلم جنود ربك﴾ يعني : من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار، ولا يعلم عدتهم إلا الله تعالى.
والمعنى : أن تسعة عشر هم خزنة النار ولهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى، ولو أراد لجعل الخزنة أكثر من ذلك، فقد روي أنّ البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا تعود لهم نوبة أخرى. وروي أنّ الأرض في السماء كحلقة ملقاة في فلاة، وكل سماء في التي فوقها كذلك، وورد في الخبر : أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع ـ وفي رواية موضع قدم ـ إلا وفيه ملك قائم يصلي ـ وفي رواية ساجد ـ وإنما خص هذا العدد لحكم لا يعلمها إلا هو.
ثم رجع إلى ذكر سقر فقال تعالى :﴿وما هي﴾ أي : النار التي هي من أعظم جنوده ﴿إلا ذكرى للبشر﴾ أي : ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله وأنه سبحانه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار، وللبشر مفعول بذكرى واللام فيه مزيدة، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة. وقرأ ورش بين بين، والباقون بالفتح. وقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٨٤
﴿كلا﴾ ردع لمن أنكرها أو إنكار لأن يتذكروا بها قاله البيضاوي. وقال البغويّ : هذا قسم
٤٨٦
يقول حقاً. وقال الجلال المحلي : استفتاح بمعنى إلا ﴿والقمر﴾ أي : الذي هو آية الليل الهادية من ضل بظلامه.
﴿والليل إذ أدبر﴾ أي : مضى فانقلب راجعاً من حيث جاء فانكشف ظلامه، وقرأ نافع وحمزة وحفص بسكون الذال المعجمة والدال المهملة بعدها وهمزة قطع مفتوحة بين المعجمة والمهملة الساكنين، والباقون بفتح الذال المعجمة وبعدها ألف وفتح المهملة بعد الألف، فالقراءة الأولى إذ أدبر والثانية إذا دبر وكلاهما لغة. يقال : دبر الليل وأدبر إذا ولى مدبراً ذاهباً. قال أبو عمرو : ودبر لغة قريش، وقال قطرب : دبر أي : أقبل، تقول العرب دبرني فلان أي : جاء خلفي فالليل يأتي خلف النهار.
وقوله تعالى :﴿والصبح إذا أسفر﴾ أي : أضاء وتبين.
وقوله تعالى :﴿إنها لإحدى الكبر﴾ جواب للقسم أو تعليل لكلا، والقسم معترض للتوكيد، والكبر جمع الكبرى جعلت ألف التأنيث كتائها، فلما جمعت فعلة على فعل جمعت فعلى عليها. ونظير ذلك القواصع في جمع القاصعاء كأنها جمع فاعلة، أي : لإحدى البلايا والدواهي الكبر. ومعنى كونها إحداهنّ أنها من بينهنّ واحدة في العظم لا نظير لها، كما تقول : هو أحد الرجال وهي إحدى النساء.
وقوله تعالى :﴿نذيراً﴾ تمييز من إحدى على معنى أنها لإحدى الدواهي إنذاراً كما تقول هي إحدى النساء عفافاً وقيل : هي حال وقيل : هو متصل بأوّل السورة أي : قم نذيراً ﴿للبشر﴾ قال الزمخشري : وهو من بدع التفاسير.
وقوله تعالى :﴿لمن شاء﴾ أي : بإرادته ﴿منكم﴾ بدل من البشر ﴿أن يتقدّم﴾ أي : إلى الخير أو إلى الجنة بالإيمان ﴿أو يتأخر﴾ أي : إلى الشر أو النار بالكفر.
﴿كل نفس﴾ أي : ذكر أو أنثى على العموم ﴿بما كسبت﴾ أي : خاصة لا ما كسب غيرها ﴿رهينة﴾ أي : مرهونة مأخوذة وليست بتأنيث رهين في قوله تعالى :﴿كل امرئ بما كسب رهين﴾ (الطور : ٢١)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٨٦
لتأنيث النفس لأنه لو قصدت الصفة لقيل : رهين، لأنّ فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنه قيل : كل نفس بما كسبت رهن.
ومنه بيت الحماسة :
*أبعد الذي بالنعف تعف كويكب ** رهينة رمس ذي تراب وجندل*


الصفحة التالية
Icon