﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٩٥
ويذرون﴾ أي : يتركون على أي وجه كان ولو أنه غير مستحسن ﴿الآخرة﴾ لأنهم يبغضونها لارتكابهم ما يضرّهم فيها وجمع الضمير وإن كان مبنى الخطاب مع الإنسان للمعنى. وقرأ ﴿يحبون﴾ و﴿يذرون﴾ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بياء الغيبة فيهما حملاً على لفظ الإنسان المذكور أوّلاً ؛ لأنّ المراد به الجنس، لأنّ الإنسان بمعنى الناس والباقون بتاء الخطاب فيهما إما خطاباً لكفار قريش أي : تحبون يا كفار قريش العاجلة أي : الدار الدنيا والجاه فيها وتتركون الآخرة والعمل لها، وإما التفاتاً عن الإخبار عن الجنس المتقدّم والإقبال عليه بالخطاب.
ولما ذكر تعالى الآخرة التي أعرضوا عنها ذكر ما يكون فيها بياناً لجهلهم وسفههم وقلة عقولهم وترهيباً لمن أدبر عنها وترغيباً لمن أقبل عليها لطفاً بهم ورحمة لهم فقال تعالى :﴿وجوه﴾ أي : من المحشورين وهم جميع الخلائق ﴿يومئذ﴾ أي : إذ تقوم الساعة ﴿ناضرة﴾ من النضرة بالضاد وهي النعمة والرفاهية أي : هي بهية مشرقة عليها أثر النعمة بحيث يدل ذلك على نعمة أصحابها.
﴿إلى ربها﴾ أي : المحسن إليها خاصة باعتبار أن عد النظر إلى غيره كلا نظر ﴿ناظرة﴾ أي : دائماً هم محدقون أبصارهم لا غفلة لهم عن ذلك، فإذا رفع الحجاب عنهم أبصروه بأعينهم بدليل التعدّي بإلى، وذلك النظر جهرة من غير اكتتام ولا تضامّ ولا زحام كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وأكثر المفسرين، وجميع أهل السنة، وروي عن النبيّ عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة من وجوه كثيرة بحيث اشتهر غاية الشهرة، وتكون الرؤية كما مثلت في الأحاديث كما يرى القمر ليلة البدر أي : كل من يريد رؤيته من بيته يراه مجلياً له، هذا وجه الشبه، لا أنه في جهة ولا في حالة لها شبيه تعالى الله الكريم عن التشبيه.
فمن تلك الأحاديث ما روي عن جرير بن عبد الله قال :"خرج علينا رسول الله ﷺ فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال ﷺ إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ ﴿وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها﴾" (طه : ١٣٠)
وفي كتاب النسائي عن وهب قال :"ينكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم شيئاً أحبّ إليهم من النظر ولا أقر لأعينهم".
وعن جابر قال :"قال رسول الله ﷺ يتجلى ربنا عز وجل حتى ننظر إلى وجهه فيخرون له سجداً فيقول تعالى : ارفعوا رؤوسكم، فليس هذا يوم عبادة".
٤٩٦
وقدم الجارّ الدال على الاختصاص إشارة إلى أنّ هذا النظر مباين للنظر إلى غيره، فلا يعد ذلك نظراً بالنسبة إليه وعبر بالوجوه عن أصحابها ؛ لأنها أدل ما يكون على السرور، وليكون ذكرها أصرح في أنّ المراد بالنظر حقيقته.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٩٥
روى مسلم في قوله تعالى :﴿للذين أحسنوا الحسنى وزيادة﴾ (يونس : ٢٦)
كان ابن عمر يقول : أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم تلا هذه الآية.
وأنكر الرؤية المعتزلة، واحتجوا بقوله تعالى :﴿لا تدركه الأبصار﴾ (الأنعام : ١٠٣)
ويقولون : النظر المقرون بإلى ليس اسماً للرؤية بل لمقدّمة الرؤية وهي تقليب الحدقة نحو المرئيّ التماساً لرؤيته ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة وكالإصغاء بالنسبة إلى السمع، ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون﴾ (الأعراف : ١٩٨)
فأثبت النظر حال عدم الرؤية، فتكون الرؤية غاية النظر وأنّ النظر يحصل والرؤية غير حاصلة. قالوا : ويمكن أن يكون معنى قوله تعالى :﴿ناظرة﴾ منتظرة كقولك أنا أنظر إليك في حاجتي.
وأجيب عن استدلالهم بقوله تعالى :﴿لا تدركه الأبصار﴾ بأن لا تدركه بالإحاطة والجهة فلا يكون ذلك مانعاً للرؤية على هذا الوجه وعن بقية استدلالهم بما ذكروه بجوابين :
أحدهما : أن نقول : النظر هو الرؤية لقول موسى عليه السلام ﴿أرني أنظر إليك﴾ (الأعراف : ١٤٣)
فلو كان المراد تقليب الحدقة نحو المرئي لاقتضت الآية إثبات الجهة والمكان، ولأنه أخر النظر عن الإراءة فلا يكون تقليب الحدقة.
الجواب الثاني : سلمنا ما ذكرتموه من أنّ النظر تقليب الحدقة تعذر حمله على الحقيقة فيجب حمله على الرؤية إطلاقاً لاسم السبب على المسبب وهو أولى من حمله على الانتظار لعدم الملازمة ؛ لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية، ولا تعلق بينه وبين الانتظار.
وأمّا قولهم بحمله على الانتظار فأجيب عنه أيضاً بأن الذي هو بمعنى الانتظار في القرآن غير مقرون بإلى، كقوله تعالى :﴿انظرونا نقتبس من نوركم هل ينظرون إلا أن﴾ (الحديد : ١٣)
والذي ندعيه أن النظر المقرون بإلى ليس إلا بمعنى الرؤية ؛ لأنّ وروده بمعنى الرؤية ظاهرة فلا يكون بمعنى الانتظار دفعاً للاشتراك.