﴿إنّ الذين يغضون﴾ أي : يخفضون ويلينون لما وقع عليهم من السكينة من هيبة حضرته قال الطبريّ وأصل الغض الكف في لين ﴿أصواتهم﴾ تخشعاً وتخضعاً ورعايةً للأدب وتوقيراً ﴿عند رسول الله﴾ أي الذي من شأنه أن يعلو كلامه على كل كلام، لأنه مبلغ عن الملك الأعظم وعبر بعند الذي للظاهر إشارة إلى أنّ أهل حضرة الخصوصية لا يقع منهم إلا أكمل الأدب ﴿أولئك﴾ أي عالو الرتبة ﴿الذين امتحن الله﴾ أي : فعل المحيط بجميع صفات الكمال فعل المختبر ﴿قلوبهم
٤٧
للتقوى﴾
أي : اختبرها وأخلصها لتظهر منهم من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه. فإنّ الامتحان اختبار بليغ يؤدّي إلى خبر فالمعنى أنه طهر قلوبهم ونقاها كما يمتحن الصائغ الذهب والفضة بالإذابة والتنقية والتخليص من كل غش لأجل إظهار ما بطن فيها من التقوى ليصير معلوماً للخلق في عالم الشهادة، كما كان له سبحانه في عالم الغيب. ﴿لهم مغفرة﴾ أي : لهفواتهم وزلاتهم ﴿وأجر عظيم﴾ لغضهم وسائر طاعاتهم. والتنكير للتعظيم.
قال أنس : فكنا أي بعد نزول هذه الآية في حق ثابت ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا فلما كان في يوم حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض الإنكسار فانهزمت طائفة منهم فقال : أفّ لهؤلاء، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله ﷺ مثل هذا ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام فقال له : اعلم أن فلاناً رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من العسكر عند فرس يستنّ في طوله، وقد وضع على درعي ثوبه فائت أبا بكر خليفة رسول الله ﷺ وقل له : إن عليّ ديناً حتى يقضيه عني وفلان من رقيقي عتيق، فأخبر الرجل خالداً فوجد درعه والفرس على ما وصفه فاسترد الدرع وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤية فأجاز أبو بكر وصيته قال مالك بن أنس : لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٥
واختلف في سبب نزول قوله عز وجل :
﴿إن الذين ينادونك من وراء الحجرات﴾ فقال ابن عباس رضى الله عنهما :"بعث رسول الله ﷺ سرية إلى بني النضير وأمر عليهم عتبة بن حصن الغزاوي فلما علموا هربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عتبة وقدم بهم على رسول الله ﷺ فجاءهم بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله ﷺ قائلاً في أهله، فلما رأتهم الذراري اجهشوا إلى آبائهم يبكون وكان لكل امرأة من نساء رسول الله ﷺ حجرة، فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله ﷺ فجعلوا ينادون يا محمد اخرج إلينا حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم.
فقالوا : يا محمد فادنا عيالنا. فنزل جبريل عليه السلام فقال إنّ الله تبارك وتعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلاً. فقال لهم رسول الله ﷺ أترضون أن يكون بيني وبينكم شبرمة بن عمرو وهو على دينكم فقالوا : نعم. فقال شبرمة : أنا لا أحكم بينهم وعمي شاهد وهو الأعور بن بسامة فرضوا به فقال الأعور : أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله ﷺ قد رضيت ففادى نصفهم وأعتق نصفهم" فأنزل الله تعالى ﴿إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات﴾ جمع حجرة وهي ما تحجره من الأرض بحائط ونحوه. كان كل واحد منهم نادى خلف حجرة لأنهم لم يعلموه في أيها مناداة الأعراب بغلظة وجفاء ﴿أكثرهم﴾ أي : المنادي والراضى دون الساكت لعذر ﴿لا يعقلون﴾ أي : محلك الرفيع وما يناسبه من التعظيم، فلم يصبروا بل فعلوا معه ﷺ كما يفعل بعضهم ببعض.
﴿ولو أنهم﴾ أي : المنادي والراضي ﴿صبروا﴾ أي : حبسوا أنفسهم ومنعوها من مناداتهم والصبر : حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها، وهو حبس فيه شدّة وصبر. ﴿حتى تخرج إليهم﴾ من تلقاء نفسك عند فراغ ما أنت فيه مما يهمك من واردات الحق ومصالح الخلق ﴿لكان﴾ أي :
٤٨
الصبر ﴿خيراً لهم﴾ أي : من استعجالهم إيقاظك في الهاجرة.
ومما لو قرعوا الباب بالأظافر كما كان يفعل غيرهم من الصحابة. قال أبو عثمان : الأدب عند الأكابر يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلا والخير في الأولى والعقبى ا. ه فإنهم لو تأدّبوا لربهم لزادهم ﷺ في الفضل فأعتق جميع سبيهم وأطلقهم بلا فداء. ﴿والله﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال ﴿غفور﴾ أي : ستور ذنب من تاب من جهله ﴿رحيم﴾ أي : يعاملهم معاملة الراحم، فيسبغ عليهم نعمه. وقال قتادة :"نزلت في ناس من أعراب تميم جاءوا إلى النبيّ ﷺ فنادوا على الباب اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وذمّنا شين فخرج إليهم رسول الله ﷺ وهو يقول : إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٥


الصفحة التالية
Icon