أي : العلماء به، وذكر الخشية لأنها ملاك الأمر من خشي الله تعالى أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شرّ. ومنه قوله ﷺ "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل" بدأ بمخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض كما يقول الرجل لضيفه : هل لك أن تنزل بنا، وأردفه الكلام الرفيق ليستدعيه للتلطف في القول ويستنزله بالمداراة من علوه كما أمر بذلك في قوله تعالى :﴿فقولا له قولاً ليناً﴾ (طه : ٢٥)
الآية. وقال الرازي : سائر الآيات تدل على أنه تعالى لما نادى موسى عليه السلام ذكر له أشياء كثيرة ﴿نودي
٥٤١
إني أنا ربك﴾
إلى قوله تعالى :﴿لنريك من آياتنا الكبرى اذهب إلى فرعون إنه طغى﴾ (طه : ١٢ ـ ٢٤)
فدل قوله تعالى :﴿اذهب إلى فرعون إنه طغى﴾ أنه من جملة ما ناداه به لا كل ما ناداه به، وأيضاً فليس الغرض أنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى فرعون فقط، بل إلى كل من كان في الطور إلا أنه خصه بالذكر لأنّ دعوته جارية مجرى كل القوم.
والفاء في قوله تعالى :﴿فأراه﴾ عاطفة على محذوف يعني : فذهب فأراه ﴿الآية الكبرى﴾ كقوله تعالى :﴿اضرب بعصاك الحجر فانفجرت﴾ (البقرة : ٦٠)
أي : فضرب فانفجرت.
واختلفوا في الآية الكبرى أي : العلامة العظمى وهي المعجزة. فقال عطاء وابن عباس رضي الله عنهم : هي العصا. وقال مقاتل والكلبي رضي الله عنهما : هي اليد البيضاء تبرق كالشمس، والأوّل أولى لأنه ليس في اليد إلا انقلاب لونها، وهذا حاصل في العصا لأنها لما انقلبت حية لا بدّ وأن يتغير اللون الأوّل، فإذن كل ما في اليد فهو حاصل في العصا، وأمور أخر وهي الحياة في الجرم الجمادي وتزايد أجزائه، وحصول القدرة الكبيرة والقوّة الشديدة وابتلاعها أشياء كثيرة وزوال الحياة والقدرة عنها، وذهاب تلك الأجزاء التي عظمت، وزوال ذلك اللون والشكل اللذين صارت العصا بهما حية، وكل واحد من هذه الوجوه كان معجزاً مستقلاً في نفسه، فعلمنا أنّ الآية الكبرى هي العصا. وقال مجاهد رضي الله عنه : هي مجموع العصا واليد، وقيل : فلق البحر، وقيل : جميع آياته التسع.
﴿فكذب﴾ أي : فتسبب عن رؤيته ذلك أن كذب موسى عليه السلام ﴿وعصى﴾ الله تعالى بعد ظهور الآية وتحقيق الأمر، وقيل : كذب بالقول وعصى بالتمرّد والتجبر.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٤١
ثم أدبر﴾
أي : تولى وأعرض عن الإيمان بعد المهل والأناة إعراضاً عظيماً بالتمادي على أعظم ما كان فيه من الطغيان بعد خطوب جليلة ومشاهد طويلة، حال كونه ﴿يسعى﴾ أي : يعمل بالفساد في الأرض، أو أنه لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً يسعى أي : يسرع في مشيته. قال الحسن رضي الله عنه : كان رجلاً طياشاً خفيفاً، وتولى عن موسى عليه السلام يسعى ويجتهد في مكايدته، أو أريد : ثم أقبل يسعى كما تقول : أقبل فلان يفعل كذا بمعنى أنشأ يفعل، فوضع أدبر موضع أقبل لئلا يوصف بالإقبال.
﴿فحشر﴾ أي : فتسبب عن إدباره أنه جمع السحرة للمعارضة وجنوده للقتال ﴿فنادى﴾ حينئذ بأعلى صوته. قال حمزة الكرماني : قال له موسى عليه السلام : إنّ ربي أرسلني إليك لئن آمنت بربك تكون أربعمائة سنة في النعيم والسرور، ثم تموت فتدخل الجنة فقال : حتى أستشير هامان فاستشاره، فقال : أتصير عبداً بعدما كنت رباً، فعند ذلك جمع بعث الشرط وجمع السحرة والجنود.
فلما اجتمعوا قام عدوّ الله على سريره ﴿فقال أنا ربكم الأعلى﴾ أي : لا رب فوقي، وقيل : أراد أنّ الأصنام أرباب وأنا ربها وربكم، وقيل : أمر منادياً فنادى في الناس بذلك، وقيل : قام فيهم خطيباً فقال ذلك.
﴿فأخذه الله﴾ أي : أهلكه بالغرق الملك الأعظم الذي لا كفء له ﴿نكال﴾ أي : عقوبة ﴿الآخرة﴾ أي : هذه الكلمة وهي قوله ﴿أنا ربكم الأعلى﴾. ﴿والأولى﴾ وهي قوله :﴿ما علمت لكم من إله غيري﴾ (القصص : ٣٨)
. قال ابن عباس رضي الله عنهما : وكان بين الكلمتين
٥٤٢
أربعون سنة، والمعنى : أمهله في الأولى ثم أخذه في الآخرة فعذبه بكلمتيه. وقال الحسن رضي الله عنه :﴿نكال الآخرة والأولى﴾ هو أن أغرقه في الدنيا وعذبه في الآخرة. وعن قتادة رضي الله عنه : الآخرة هي قوله :﴿أنا ربكم الأعلى﴾ والأولى تكذيبه لموسى عليه السلام.
ثم إنه تعالى ختم هذه القصة بقوله تعالى :﴿إنّ في ذلك﴾ أي : الأمر العظيم الذي فعله فرعون والذي فعل به حين كذب وعصى ﴿لعبرة﴾ أي : لعظة ﴿لمن يخشى﴾ أي : لمن يخاف الله تعالى لأنّ الخشية أساس الخير كما مرّت الإشارة إليه.
ثم خاطب تعالى منكري البعث بقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٤١


الصفحة التالية
Icon