وجواب إذا قوله :﴿فأمّا من طغى﴾ أي : تجاوز الحد في العدوان حتى كفر بربه ﴿وآثر﴾ أي : قدّم واختار ﴿الحياة الدنيا﴾ أي : انهمك فيها ولم يستعدّ للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس ﴿فإنّ الجحيم﴾ أي : النار الشديدة التوقد العظيمة ﴿هي﴾ أي : خاصة ﴿المأوى﴾ أي : مأواه كما تقول للرجل : غض الطرف، تريد طرفك، وليست الألف واللام بدلاً عن الإضافة، ولكن لما علم أنّ
٥٤٤
الطاغي هو صاحب المأوى، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره تركت الإضافة.
تنبيه :﴿هي﴾ يجوز أن تكون فصلاً أو مبتدأ.
﴿وأمّا من خاف مقام ربه﴾ أي : قيامه بين يديه لعلمه بالمبدأ وبالمعاد، وقال مجاهد : خوفه في الدنيا من الله تعالى عند مواقعة الذنب فيقلع عنه نظيره ﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾ (الرحمن : ٤٦)
﴿ونهى النفس﴾ أي : الأمارة بالسوء ﴿عن الهوى﴾ وهو اتباع الشهوات وزجرها عنها وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخير.
﴿فإنّ الجنة﴾ أي : البستان لكل ما يشتهى ﴿هي﴾ أي : خاصة ﴿المأوى﴾ أي : ليس له سواها مأوى، وحاصل الجواب أنّ العاصي في النار والطائع في الجنة. قال الرازي : هذان الوصفان مضادان للوصفين المتقدّمين فقوله تعالى :﴿فأما من خاف مقام ربه﴾ ضد قوله تعالى :﴿فأما من طغى﴾. ﴿ونهى النفس عن الهوى﴾ ضد قوله تعالى :﴿وآثر الحياة الدنيا﴾ فكما دخل في ذينك الوصفين جميع القبائح دخل في هذين الوصفين جميع الطاعات. وقال عبد الله بن مسعود : أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق، فتعوّذوا بالله من ذلك الزمان.
تنبيه : اختلف في سبب نزول هاتين الآيتين، فقيل : نزلتا في مصعب بن عمير وأخيه. روى الضحاك عن ابن عباس قال :﴿أمّا من طغى﴾ فهو أخو مصعب بن عمير أسر يوم بدر وأخذته الأنصار فقالوا : من أنت، قال : أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدّوه في الوثاق وأكرموه وبيتوه عندهم فلما أصبحوا حدّثوا مصعب بن عمير حديثه، فقال : ما هو لي بأخ شدّوا أسيركم، فإنّ أمّه أكثر أهل البطحاء حلياً ومالاً، فأوثقوه حتى تبعث أمّه فداءه، ﴿وأمّا من خاف مقام ربه﴾ فمصعب بن عمير وقى رسول الله ﷺ بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه، والمشاقص جمع مشقص وهو السهم العريض، فلما رآه ﷺ متشحطاً في دمه قال ﷺ "عند الله أحتسبك" وقال ﷺ لأصحابه :"لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإنّ شراك نعله من ذهب" وعن ابن عباس أيضاً : نزلت في رجلين أبي جهل بن هشام ومصعب بن عمير. وقال السدي : نزلت الآية الثانية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقال الكلبي : هما عامّتان.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٤٣
ولما سمع المشركون أخبار القيامة ووصفها بالأوصاف الهائلة مثل الطامّة الكبرى والصاخة والقارعة وسألوا رسول الله ﷺ استهزاءً متى تكون الساعة ؟
نزل :﴿يسئلونك﴾ يا أشرف الخلق ﴿عن الساعة﴾ أي : البعث الآخر لكثرة ما تتوعدهم به من أمرها ﴿أيان مرساها﴾ أي : في أي وقت إرساؤها، أي : إقامتها أرادوا متى يقيمها الله تعالى ويثبتها ويكوّنها، أو أيان منتهاها ومستقرّها، كما أنّ مرسى السفينة مستقرّها حيث تنتهي إليه.
فأجابهم الله تعالى بقوله سبحانه :﴿فيم﴾ أي : في أي شيء ﴿أنت من ذكراها﴾ أي : من أن تذكر وقتها لهم وتعلهم به.
تنبيه :﴿فيم﴾ خبر مقدّم و﴿أنت﴾ مبتدأ مؤخر و ﴿من ذكراها﴾ متعلق بما تعلق به الخبر،
٥٤٥
والمعنى : أنت في أي شيء من ذكراها، أي : ما أنت من ذكراها لهم وتبيين وقتها في شيء. وعن عائشة رضي الله عنها "لم يزل رسول الله ﷺ يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت" فهو على هذا تعجب من كثرة ذكره لها، كأنه قيل : في أيّ شغل واهتمام أنت من ذكراها والسؤال عنها، والمعنى : أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها.
﴿إلى ربك﴾ أي : المحسن إليك بأنواع النعم ﴿منتهاها﴾ أي : منتهى علمها لم يؤت علمها أحداً من خلقه كقوله تعالى :﴿إنما علمها عند ربي﴾ (الأعراف : ١٨٧)
وقوله تعالى :﴿إنّ الله عنده علم الساعة﴾ (لقمان : ٣٤)
قال القرطبي : ويجوز أن يكون إنكاراً على المشركين في مسألتهم، أي : فيم أنت من ذلك حتى يسألونك، بيانه : ولست ممن يعلمه. روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل : الوقف على قوله تعالى :﴿فيم﴾ وهو خبر مبتدأ مضمر أي : فيم هذا السؤال، ثم يبتدأ بقوله تعالى :﴿أنت من ذكراها﴾ أي : أرسلناك وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل المبعوث في فم الساعة ذكر من ذكراها وعلامة من علاماتها فكفاهم بذلك دليلاً على دنوّها ومشارفتها ووجوب الاستعداد لها، ولا معنى لسؤالهم عنها.
﴿إنما أنت﴾ أي : يا أشرف الرسل ﴿منذر﴾ أي : إنما بعثت لإنذار ﴿من يخشاها﴾ أي : لتخويف من يخاف هولها، وهو لا يناسب تعيين الوقت وتخصيص من يخشى ؛ لأنه المنتفع به، أي : إنما ينفع إنذارك من يخافها وإن كنت منذر الكل مكلف.
﴿كأنهم﴾ قال البغوي : يعني : كفار قريش ﴿يوم يرونها﴾ أي : يعلمون قيام الساعة علماً هو كالرؤية ويرون ما يحدث فيها بعد سماع الصيحة وقيامهم من القبور مع علمهم بما مرّ من زمانهم وما أتى فيه ﴿لم يلبثوا﴾ أي : في الدنيا أو في القبور ﴿إلا عشية﴾ أي : من الزوال إلى غروب الشمس ﴿أو ضحاها﴾ أو ضحى عشية من العشايا وهو البكرة إلى الزوال، والعشية بعد ذلك أضيف إليها الضحى ؛ لأنها من النهار، والإضافة تحصل بأدنى ملابسة، وهي هنا كونهما من نهار واحد، فالمراد ساعة من نهار من أوّله أو آخره لم يستكملوا نهاراً تامّاً، ولم يجمعوا بين طرفيه، وهذا كما قال ﷺ "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع".
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٤٣
فإن قيل : هلا قال : إلا عشية أو ضحى، وما فائدة الإضافة ؟
أجيب : بأنّ ذلك للدلالة على أنّ مدة لبثهم كأنها لم تبلغ يوماً كاملاً، ولكن ساعة منه عشيته أو ضحاه، فلما ترك اليوم أضافه على عشيته فهو كقوله تعالى :﴿لم يلبثوا إلا ساعة من نهار﴾ (الأحقاف : ٣٥)
وحسن الإضافة وقوع الكلمة فاصلة.
تنبيه : قرأ ﴿حديث موسى﴾، ﴿طوى﴾، ﴿طغى﴾، ﴿تزكى﴾، ﴿فتخشى﴾، ﴿وعصى﴾، ﴿يسعى﴾، ﴿فنادى﴾، ﴿الأعلى﴾، ﴿والأولى﴾، ﴿يخشى﴾، ﴿ما سعى﴾، ﴿طغى﴾، ﴿الدنيا﴾، ﴿المأوى﴾، ﴿عن الهوى﴾، ﴿المأوى﴾، حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش
٥٤٦
وأبو عمرو بين وبين، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين. وقرأ ﴿فأراه الآية الكبرى﴾، ﴿الطامّة الكبرى﴾ ﴿لمن يرى﴾، ﴿من ذكراها﴾، أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح في الجميع.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ النبيّ ﷺ قال :"من قرأ سورة والنازعات كان ممن حبسه الله تعالى في القبر والقيامة حتى يدخل الجنة قدر صلاة مكتوبة" حديث موضوع.
٥٤٧
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٤٣


الصفحة التالية
Icon