وقرأ ﴿أنا صببنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿الماء﴾ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة على أنه بدل اشتمال بمعنى أنّ صب الماء سبب في إخراج الطعام فهو مشتمل عليه بهذا التقدير، أو أنه تقدير لام العلة، أي : فلينظر لأنا ثم حذف الخافض، وقال البغوي : أنا بالفتح على تكرير الخافض مجازه فلينظر إلى أنا وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف تعديداً لنعمه تعالى عليه، وقوله تعالى﴿صباً﴾ تأكيد، والمراد بالماء المطر.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٥١
ولما كان الإنسان محتاجاً إلى جميع ما في الوجود ولو نقص منه شيء اختل أمره وبدأ أولاً بالسماوي لأنه أشرف وبالماء الذي هو حياة كل شيء تنبيهاً له على ابتداء خلقه. ثنى بالأرض التي هي كالأنثى بالنسبة إلى السماء فقال تعالى ﴿ثم﴾ أي : بعد مهلة من إنزال الماء ﴿شققنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿الأرض﴾ أي : بالنبات الذي هو في غاية الضعف عن شق أضعف الأشياء فكيف بالأرض اليابسة، وقوله تعالى ﴿شقاً﴾ تأكيد.
ثم سبب عن الشق ما هو كالتفسير له فقال تعالى :﴿فأنبتنا﴾ أي : بما لنا من القدرة التامة ﴿فيها﴾ أي : بسبب الشق﴿حباً﴾ أي : قمحاً وشعيراً وسلتاً وسائر ما يحصد ويدخر، وقدّم ذلك لأنه كالأصل في التغذية ﴿وعنباً﴾ وذكره بعد الحب لأنه غذاء من وجه وفاكهة من وجه ﴿وقضباً﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو الرطب لأنه يقتضب من النخل، أي : يقطع ورجحه بعضهم
٥٥٢
لذكره بعد العنب لأنهما يقترنان كثيراً، وقيل : القت الرطب، وقيل : كل ما يقضب من البقول لبني آدم، و قيل : هو الرطبة والمقضاب أرضه، سمي بمصدر قضبه إذا قطعه لأنه يقضب مرة بعد أخرى. وقال الحسن : القضب العلف للدواب.
﴿وزيتوناً﴾ وهو ما يعصر منه الزيت يكون فيه حرافة وغضاضة فيه إصلاح المزاج. وقوله تعالى :﴿ونخلاً﴾ جمع نخلة، وكل من هذه الأشجار مخالف للآخر في الشكل والحمل وغير ذلك مع المرافقة في الأرض والسقي.
وقوله تعالى ﴿وحدائق غلباً﴾ جمع أغلب وغلباء كحمر في أحمر وحمراء، أي : بساتين كثيرة الأشجار. والأصل في الوصف بالغلب الرقاب، يقال : رجل أغلب وامرأة غلباء غليظا الرقبة فاستعير. قال عمرو بن معد يكرب :
*يمشي بها غلب الرجال كأنهم ** بزل كسين من الكحيل جلالا*
وقال مجاهد ومقاتل : الغلب الملتفة الشجر بعضه في بعض. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الطوال. وقيل : غلاظ الأشجار.
﴿وفاكهة﴾ وهي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخوخ، قال النووي في منهاجه : ويدخل في فاكهة رطب وعنب ورمّان وأترج ورطب ويابس أي : كالتمر والزبيب، قال : قلت : وليمون ونبق وبطيخ ولب فستق وبندق وغيرها في الأصح. ﴿وأباً﴾ وهو ما تأكله الدواب لأنه يؤب أي : يؤمّ وينتجع إليه. وقال عكرمة : الفاكهة ما يأكله الناس، والأب ما تأكله الدواب، وقيل : التبن. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الأب فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا علم لي به. وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية فقال : كل هذا عرفنا فما الأب ؟
ثم رفض عصا كانت بيده، ثم قال : هذا لعمر الله التكلف وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدري ما الأبّ، ثم قال : اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٥١
فإن قيل : هذا يشبه النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته ؟
أجيب : بأنه لم يذهب إلى ذلك ولكن القوم كانت أكثر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم الذي لا يعمل به تكلفاً عندهم، فأراد أنّ الآية مسوقة عندهم في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية أنّ الأب بعض ما أنبته الله تعالى للإنسان متاعاً له أو لإنعامه، فعليك بما هو أهمّ من النهوض بالشكر لله تعالى على ما بين لك، ولم يشكل مما عدّد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له، واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك من مشكلات القرآن.
﴿متاعاً﴾ أي : العشب، أي : منفعة أو تمتيعاً كما تقدّم في السورة قبلها ﴿لكم﴾ أي : الفاكهة ﴿ولأنعامكم﴾ وتقدّم أيضاً في السورة التي قبلها معرفة الأنعام والحكمة في الاقتصار عليها.
ولما ذكر تعالى هذه الأشياء وكان المقصود منها ثلاثة : أوّلها : الدلائل الدالة على التوحيد، وثانيها : الدلائل الدالة على القدرة والمعاد. وثالثها : أنّ هذا الإله الذي أحسن إلى عبيده بهذه
٥٥٣
الأنواع العظيمة من الإحسان لا يليق بالعاقل أن يتمرّد على طاعته وأن يتكبر على عبيده أتبع ذلك بما يكون كالمؤكد لهذه الأغراض وهو شرح أحوال القيامة، فإن الإنسان إذا سمعها خاف فيدعوه ذلك الخوف إلى التأمّل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر، ويدعوه أيضاً إلى ترك التكبر على الناس وإلى إظهار التواضع فقال تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٥١