جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٦٣
فإن قيل : كونه كريماً يقتضي أن يغترّ الإنسان بكرمه لأنه جواد مطلق، والجواد الكريم يستوي عنده طاعة المطيع وعصيان المذنب، وهذا يوجب الاغترار كما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه صيح بغلام له مرّات فلم يلبه، فنظر فإذا هو بالباب فقال له : لم لا تجيبني ؟
فقال : لثقتي بحلمك وأمني عقوبتك، فاستحسن جوابه وأعتقه.
وقالوا أيضاً : من كرم ساء أدب غلمانه. وإذا ثبت أنّ كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله ههنا مانعاً من الاغترار ؟
أجيب : بأنّ حق الإنسان أن لا يغتر بكرم الله تعالى عليه حيث خلقه حياً، وتفضل عليه فهو من كرمه لا يعاجل بالعقوبة بسطاً في مدّة التوبة، وتأخيراً للجزاء إلى أن يجمع الناس للجزاء فالحاصل أنّ تأخير العقوبة لأجل الكرم، وذلك لا يقتضي الاغترار بهذا التفضيل فإنه منكر خارج عن حدّ الحكمة، ولهذا قال رسول الله ﷺ لما تلاها :"غرّه جهله". وقال عمر : غرّه حمقه وجهله. وقال الحسن : غرّه والله شيطانه الخبيث، أي : زين له المعاصي. وقال له : افعل ما شئت فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أوّلاً، وهو متفضل عليك آخراً حتى ورّطه.
وقيل للفضيل بن عياض : إن أقامك الله يوم القيامة وقال لك :﴿ما غرّك بربك الكريم﴾ ماذا تقول له ؟
قال : أقول غرّني ستورك المرخاة، وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ في الاغترار بالستر وليس باعتذار كما يظنه الطماع، ويظنّ به قصاص الحشوية ويروون عن أئمتهم أنما قال ﴿بربك الكريم﴾ دون سائر صفاته ليلقن عبده الجواب حتى يقول : غرّني كرم الكريم. وقال مقاتل : غرّه عفو الله حيث لم يعاقبه أوّل مرّة. وقال السدي : غرّه رفق الله تعالى به. وقال قتادة : سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان. وقال ابن مسعود : ما منكم من أحد إلا سيخلو الله تعالى به يوم القيامة فيقول : ما غرّك بي يا ابن آدم ؟
ماذا عملت فيما علمت ؟
يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟
﴿الذي خلقك﴾ أي : أوجدك من العدم مهيأ بتقدير الأعضاء ﴿فسوّاك﴾ عقب تلك الأطوار
٥٦٤
بتصوير الأعضاء والمنافع بالفعل ﴿فعدلك﴾ أي : جعل كل شيء من ذلك سليماً مودعاً فيه قوّة المنافع التي خلقه الله تعالى لها.
تنبيه : قوله تعالى :﴿الذي﴾ يحتمل الإتباع على البدل والبيان والنعت والقطع إلى الرفع والنصب. واعلم أنه سبحانه وتعالى لما وصف نفسه بالكرم ذكر هذه الأمور الثلاثة كالدلالة على تحقيق ذلك الكرم فقوله سبحانه ﴿الذي خلقك﴾ أي : بعد أن لم تكن لا شك أنه كرم لأنه وجود، والوجود خير من العدم، والحياة خير من الموت. كما قال تعالى :﴿كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم﴾ (البقرة : ٢٨)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٦٣
وقوله تعالى :﴿فسوّاك﴾ أي : جعلك مستوي الخلقة سالم الأعضاء غاية في الكرم كما قال تعالى :﴿أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سوّاك رجلاً﴾ (الكهف : ٣٧)
أي : معتدل الخلق والأعضاء. وقال ذو النون المصري : أي : سخر لك المكوّنات أجمع، وما جعلك مسخراً لشيء منها، ثم أنطق لسانك بالذكر وقلبك بالعقل وروحك بالمعرفة ومدّك بالإيمان وشرفك بالأمر والنهي، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلاً. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الدال والباقون بالتشديد، بمعنى جعلك متناسب الأطراف فلم يجعل إحدى يديك أو رجليك أطول، ولا إحدى عينيك أوسع فهو من التعديل. وهو كقوله تعالى :﴿بلى قادرين على أن نسوّي بنانه﴾ (القيامة : ٤)
. وقال عطاء عن ابن عباس : جعلك قائماً معتدلاً حسن الصورة لا كالبهيمة المنحنية. وقال أبو علي الفارسي : عدلك خلقك في أحسن تقويم مستوياً على جميع الحيوان والنبات، وواصلاً في الكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم. وأمّا قراءة التخفيف فتحتمل هذا أي : عدل بعض أعضائك ببعض ويحتمل أن يكون من العدول، أي : صرفك إلى ما شاء من الهيئات والأشكال. ونقل القفال عن بعضهم : أنهما لغتان بمعنى واحد.
﴿في أيّ صورة﴾ أي : من الصور التي تعرفها والتي لا تعرفها من الدواب والطيور وغير ذلك من الحيوان وغيره، وما في قوله تعالى :﴿ما شاء﴾ مزيدة، وفي أيّ متعلق بركب في قوله تعالى ﴿ركبك﴾ أي : ركبك في أي صورة اقتضتها مشيئته وحكمته من الصور المختلفة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة، والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه. فإن قيل : هلا عطفت هذه الجملة كما عطف ما قبلها ؟
أجيب : بأنها بيان لعدلك ويجوز أن تتعلق بمحذوف، أي : ركبك حاصلاً في بعض الصور، ومحله النصب على الحال إن علق بمحذوف، ويجوز أن يتعلق بعدلك ويكون في أي معنى التعجب، أي : فعدلك في صورة عجيبة : ثم قال :﴿ما شاء ركبك﴾ من التراكيب يعني : تركيباً حسناً.


الصفحة التالية
Icon