بالحال ﴿لو يطيعكم﴾ وهو لا يحب عنتكم ولا شيئاً يشق عليكم ﴿في كثير من الأمر﴾ أي : الذي تريدونه على فعله من أنه يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم، وتستصوبونه ليكون فعله معكم فعل المطواع لغيره التابع له فينقلب حينئذ الحال ويصير المتبوع تابعاً، والمطاع طائعاً، ﴿لعنتم﴾ أي : لأثمتم دونه وهلكتم. لأنّ من أراد أن يكون أمر الرسول ﷺ تابعاً لأمره فقد زين له الشيطان الكفران وقوله تعالى :﴿ولكن الله﴾ أي : الملك الأعظم الذي يفعل ما يريد ﴿حبب إليكم الإيمان وزينه﴾ أي : حسنه ﴿في قلوبكم﴾ فلزمتم طاعته وعشقتم متابعته استدراك من جهة المعنى لا من جهة اللفظ لبيان عذرهم، وهو أنه من فرط حبهم للإيمان وكرهتهم للكفر كما قال تعالى :﴿وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان﴾ حملهم على ذلك ما سمعوا قول الوليد أو بصفة من لم يفعل ذلك منهم إخماداً لفعلهم وتعريضاً بذم من فعل. قال الرازي : هذه الأمور الثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل المزين وهو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان فقوله تعالى ﴿كرّه إليكم الكفر﴾ وهو التكذيب وهو في مقابلة التصديق بالجنان وأمّا الفسوق فقيل هو الكذب كما قاله ابن عباس قال تعالى ﴿إن جاءكم فاسق بنبأ﴾ فسمى الكاذب فاسقاً وقال البيضاوي : الكفر تغطية نعم الله بالجحود والفسوق الخروج عن القصد والعصيان الامتناع عن الانقياد. وقال بعضهم : الكفر ظاهر والفسوق هو الكبيرة والعصيان هو الصغيرة ﴿أولئك﴾ أي : الذين أعلى الله تعالى مقاديرهم ﴿هم الراشدون﴾ أي : الكاملون في الرشد الثابتون الاستقامة وعلى دينهم وفي تفسير الأصفهاني الرشد هو الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠
وقوله تعالى :﴿فضلاً﴾ مصدر منصوب بفعله المقدّر أي فضل وقيل : تعليل لكرّه أو حبب، وما بينهما اعتراض فهو امتنان عظيم ودرجة عالية ﴿من الله﴾ أي : الملك الأعظم الذي بيده كل شيء ﴿ونعمة﴾ أي : وعيشاً حسناً ناعماً وكرامة ﴿والله﴾ أي : المحيط بصفات الكمال ﴿عليم﴾ أي : محيط العلم يعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل. ﴿حكيم﴾ أي : بالغ الحكمة، فهو يضع الأشياء في أوفق محالها وأتقنها فكذلك وضع نعمته من الرسالة والإيمان على حسب علمه وحكمته ونزل في قضية.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠
﴿وإن طائفتان من المؤمنين﴾ الآية وهي أنّ النبيّ ﷺ ركب حماراً ومرّ علي ابن أبيّ فبال الحمار فسدّ ابن أبيّ أنفه فقال ابن رواحة لبول حماره : أطيب ريحاً من مسكك فكان بين قومهما ضرب بالأيدي والنعال والسعف. وعن أنس قال :"قيل للنبيّ ﷺ لو أتيت عبد الله بن أبيّ فانطلق إليه النبيّ ﷺ وركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون معه وهو بأرض سبخة فلما أتاه النبيّ صلى الله عليه وسلم
٥١
فقال : إليك عني فوالله لقد أذاني نتن حمارك فقال رجل من الأنصار منهم : والله لحمار رسول الله ﷺ أطيب ريحاً منك فغضب لعبد الله رجل من قومه فتشاتما فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها نزلت فيهم".
ويروى أنهما لما نزلت قرأها رسول الله ﷺ فاصطلحوا وكف بعضهم عن بعض. وعن قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مدارأة في حق فقال أحدهما للآخر : لآخذنّ حقي منك عنوة لكثرة عشيرته، وإنّ الآخر دعاه ليحاكمه إلى النبيّ ﷺ فأبى أن يتبعه فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال ولم يكن قتال بالسيوف.
وعن سفيان عن السدي قال : كانت امرأة من الأنصار يقال لها أمّ زيد تحت رجل وكان بينهما وبين زوجها شيء فرقى بها إلى علية وحبسها فبلغ ذلك قومها فجاؤوا وجاء قومه واقتتلوا بالأيدي والنعال فنزلت.
وجمع تعالى قوله سبحانه :﴿اقتتلوا﴾ نظراً للمعنى لأنّ كل طائفة جماعة وثنى الضمير في قوله تعالى :﴿فأصلحوا﴾ أي : أوقعوا الإصلاح ليحصل الصلح ﴿بينهما﴾ نظراً للفظ أي : أصلحوا بينهما بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى ﴿فإن بغت﴾ أي : أوقعت الإرادات السيئة الكائنة من النفوس التي لا تأمر بخير ﴿إحداهما﴾ أي : الطائفتين ﴿على الأخرى﴾ فلم ترجع إلى حكم الله الذي خرجت عنه ولم تقبل الحق ﴿فقاتلوا﴾ أي : اطلبوا وأوجدوا مقاتلة ﴿التي تبغي﴾ أي توقع الإرادة السيئة وتصرّ عليها وأديموا القتال لها ﴿حتى تفيء﴾ أي : ترجع عما صارت إليه من حرّ القطيعة الذي كأنه حرّ الشمس حتى نسخه الظل إلى ما كانت فيه من البرد والخير الذي هو كالظل الذي نسخته الشمس.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥١