وعن علي أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال : هم أهل كتاب، وكانوا متمسكين بكتابهم، وكانت الخمر قد أحلت لهم، فتناولها بعض ملوكهم فسكر فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج، فقالت له : المخرج أن تخطب الناس فتقول : يا أيها الناس إنّ الله تعالى أحل لكم نكاح الأخوات، ثم تخطبهم بعد ذلك : أنّ الله تعالى حرّمه. فخطب فلم يقبلوا منه فقالت : ابسط فيهم السوط فلم يقبلوا، فأمرت بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها، فهم الذين أرادهم الله تعالى بقوله :﴿أصحاب الأخدود﴾ وعن مقاتل : كانت الأخاديد ثلاثة : واحدة بنجران باليمن، وأخرى بالشام، وأخرى بفارس حرقوا بالنار، أما التي بالشام فهو أبطاموس الرومي، وأما التي بفارس فبختنصر، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواس. فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآناً، وأنزل في التي كانت بنجران. وذلك أنّ رجلاً مسلماً ممن يقرأ الإنجيل أجر نفسه في عمل وجعل يقرأ الانجيل فرأت بنت المستأجر النور يضيء من قراءة الإنجيل فذكرت ذلك لأبيها فرمقه فرآه فسأله فلم يخبره، فلم يزل به حتى أخبره بالدين وبالإسلام فتابعه هو وسبعة وثمانون إنساناً ما بين رجل وامرأة، وهذا بعد ما رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، فسمع ذلك يوسف ذو نواس فخدّ لهم في الأرض، وأوقد فيها فعرضهم على الكفر، فمن أبى أن يكفر قذفه في النار، ومن رجع عن دين عيسى لم يقذفه، وأنّ امرأة جاءت ومعها صغير لا يتكلم فلما قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت عن النار، فضُربت حتى تقدّمت فلم تزل كذلك ثلاث مرّات، فلما كانت في الثالثة ذهبت ترجع فقال لها ابنها يا أمّاه إني أرى أمامك ناراً لا تُطفأ، فلما سمعت ذلك قذفا جميعاً أنفسهما في النار فجعلها الله وابنها في الجنة. فقذف في النار في يوم واحد سبعة وسبعون إنساناً فذلك قوله تعالى :﴿قتل أصحاب الأخدود﴾.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٨٢
وقوله تعالى :﴿النار﴾ بدل اشتمال من الأخدود. وقوله تعالى :﴿ذات الوقود﴾ وصف لها بأنها نار عظيمة لها، ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس، واللام في الوقود للجنس.
وقوله تعالى :﴿إذ هم عليها قعود﴾ ظرف لقتل أي : لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعدين حولها، ومعنى عليها على ما يدنوا منها من حافات الأخدود كقوله :
*وبات على النار الندى والمحلق*
وكما تقول : مررت عليه تريد مستعلياً المكان الذي يدنو منه، فكانوا يقعدون حولها على الكراسي. وقال القرطبي : عليها. قوله وقال القرطبي عليها كذا في جميع النسخ وفيه سقط فراجعه.
﴿وهم على ما يفعلون بالمؤمنين﴾ بالله من تعذيبهم بالإلقاء في النار إن لم يرجعوا عن
٥٨٥
إيمانهم ﴿شهود﴾ أي : يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه لم يقصر فيما أمر به أو شهود بمعنى حضور، إذ روي أنّ الله تعالى أنجى المؤمنين الملقين في النار بقبض أرواحهم قبل وقوعهم فيها وخرجت النار إلى القاعدين فأحرقتهم. قال الرازي : يمكن أن يكون المراد بأصحاب الأخدود القاتلين، ويمكن أن يكون المراد بهم المقتولين. والمشهور أن المقتولين هم المؤمنون. وروي أن المقتولين هم الجبابرة. روي أنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفرة فأحرقتهم، ونجّى الله المؤمنين منها سالمين وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنس والواحدي. وتأوّلوا قوله تعالى :﴿فلهم عذاب جهنم﴾ أي : في الآخرة ﴿ولهم عذاب الحريق﴾ أي : في الدنيا.
فإن فسر أصحاب الأخدود بالقاتلين فيكون قوله تعالى :﴿قتل أصحاب الأخدود﴾ دعاء عليهم كقوله تعالى :﴿قتل الإنسان ما أكفره﴾ (عبس : ١٧)
وإن فسر بالمقتولين كان المعنى : أنّ المؤمنين قتلوا بالنار فيكون ذلك خبراً لا دعاءً. والمقصود من هذه الآية : تثبيت قلوب المؤمنين وإخبارهم بما كان يلقاه من قبلهم من الشدائد. وذكر لهم النبيّ ﷺ قصة الغلام ليصبروا على ما يلقون من أذى الكفار ليتأسوا بهذا الغلام في صبره على الأذى والصلب، وبذل نفسه في إظهار دعوته ودخول الناس في الدين مع صغر سنه، وكذلك صبر الراهب على التمسك بالحق حتى نشر بالمنشار، وكذلك أكثر الناس لما آمنوا بالله تعالى.
﴿وما نقموا﴾ أي : وما أنكروا وكرهوا ﴿منهم﴾ من الخلات وكان ذنباً ونقصاً ﴿إلا أن يؤمنوا﴾ أي : يجدّدوا الإيمان مستمرّين عليه ﴿بالله﴾ أي : الذي له الكمال كله ﴿العزيز﴾ في ملكه الذي يغلب من أراد ولا يغلبه شيء. ﴿الحميد﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال، فهو يثيب من أطاعه أعظم ثواب وينتقم ممن عصاه بأشدّ العذاب. وهذا استثناء على طريقة قول القائل :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٨٢
ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم
** بهن فلول من قراع الكتائب*
أي : من ضرابها، والكتائب بالتاء المثناة : جمع كتيبة وهي الجيش، وقال ابن الرقيات :
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا