سورة الأعلى
مكية
في قول الجمهور وقال الضحاك مدنية، قال النووي : وكان النبيّ ﷺ يحيها لكثرة مااشتملت عليه من العلوم والخبرات، وهي تسع عشرة آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وأربعة وثمانون حرفاً.
﴿بسم الله﴾ عالم الغيب فلا تخفى عليه خافية ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ جوده كل أنس وجنّ وملك ودابة ﴿الرحيم﴾ الذي خص أولياءه بمعرفتهم إحسانه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٩٤
واختلف في قوله سبحانه وتعالى :﴿سبح اسم ربك﴾ فالأكثرون على أن المعنى : نزه ربك المحسن إليك بعد إيجادك على صفة الكمال عما لا يليق به، فاسم زائد، كقول لبيد :
* ** إلى الحول ثم اسم السلام عليكما*
وقيل : عَظِّمْ ربك ﴿الأعلى﴾ والاسم زائد كما مرّ، قصد به تعظيم المسمى، وذكر الطبري أن المعنى : نزه اسم ربك الأعلى عن أن تسمي به أحداً سواه. وقيل : نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم لذكره وقال الرازي : معنى ﴿سبح اسم ربك الأعلى﴾ أي : نزِّهْهُ عن كل ما لا يليق به في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه. أما في ذاته فأن تعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض، وأما في صفاته فأن تعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهيةٌ ولا ناقصة، وأما في أفعاله فأن تعتقد أنه سبحانه مالك مطلق لا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور، وأما في أسمائه فأن لا تذكره سبحانه إلا بالأسماء التي لا توهم نقصاً بوجهٍ من الوجوه، سواءٌ ورد الإذن
٥٩٥
فيها أم لم يرد، وأما في أحكامه سبحانه فأن تعلم أنه ما كلفنا لنفع يعود إليه بل لمحض المالكية. قال البغوي : ويحتج بهذا من يجعل الاسم والمسمى واحد، لأنّ أحداً لا يقول سبحان الله. و سبحان اسم ربنا إنما يقول : سبحان الله وسبحان ربنا. فكان معنى :﴿سبح اسم ربك﴾ اه. وكون الاسم عين المسمى أو غيره قد ذكرتها في مقدّمتي على البسملة والحمدلة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : سبح أي : صل بأمر ربك. وذهب جماعة من الصحابة والتابعين على أنّ المراد قل : سبحان ربي الأعلى، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنّ النبيّ ﷺ قرأ ﴿سبح اسم ربك الأعلى﴾ فقال :"سبحان ربي الأعلى". وعن عقبة بن عامر "أنه لما نزلت ﴿فسبح باسم ربك العظيم﴾ (الواقعة : ٧٤)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٩٥
قال لنا رسول الله ﷺ "اجعلوها في ركوعكم". ولما نزل ﴿سبح اسم ربك الأعلى ﴾قال : اجعلوها في سجودكم". وروي أنه ﷺ كان يقول ذلك. وروي "أنّ أوّل من قال سبحان ربي الأعلى ميكائيل".
ولما أمر تعالى بالتسبيح فكان سائلاً قال : الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد المعرفة فما الدليل على وجود الرب تعالى ؟
فقال تعالى :﴿الذي خلق﴾ أي : أوجد من العدم فله صفة الإيجاد لكل ما أراده لا يعسر عليه شيء ﴿فسوّى﴾ أي : مخلوقه. وقال الرازي : يحتمل أن يريد الناس خاصة، ويحتمل أن يريد الحيوان، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه تعالى، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوهاً : أحدها : اعتدال قامته وحسن خلقه، كما قال تعالى :﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾ (التين : ٤)
وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه بقوله تعالى :﴿فتبارك الله أحسن الخالقين﴾ (المؤمنون : ١٤)
. ثانيها : كل حيوان مستعدّ لنوع واحد من الأعمال فقط، أمّا الإنسان فإنه خلق بحيث يمكنه أن يأتي بجميع الأعمال بواسطة الآلات. ثالثها : أنه تعالى هيأه للتكليف والقيام بأداء العبادات. وقال بعضهم : خلق في أصلاب الآباء وسوّى في أرحام الأمّهات.
ومن حمله على جميع الحيوانات فمعناه : أنه أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه من الآلات والأعضاء، ومن حمله على جميع المخلوقات كان المراد من التسوية : هو أنه تعالى قادرٌ على كل الممكنات، عالمٌ بجميع المعلومات، يخلق ما أراد على وفق إرادته موصوفاً بالأحكام والإتقان، مبرّأٌ عن النقص والاضطراب.
وقرأ ﴿والذي قدر﴾ الكسائي بتخفيف الدال والباقون بالتشديد قال البغوي : وهما بمعنى واحد، أي : أوقع تقديره في أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها وغير ذلك من أحوالها، فجعل البطش لليد، والمشي للرجل، والسمع للأذن، والبصر للعين ونحو ذلك ﴿فهدى﴾ قال مجاهد : هدى الإنسان لسبيل الخير والشرّ والسعادة والشقاوة وهدى الأنعام لمراعيها. وقال مقاتل والكلبي : في قوله تعالى :﴿فهدى﴾ عرّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى، كما قال تعالى في سورة طه :﴿أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾ (طه : ٥٠)
أي : الذكر للأنثى. وقال عطاء : جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها له. وقيل : قدّر أقواتهم وأرزاقهم وهداهم لمعاشهم إن كانوا أناساً، ولمراعيهم إن كانوا وحوشاً. وقال السدّي : قدّر مدّة الجنين في الرحم ثم
٥٩٦
هداه إلى الخروج من الرحم، ومن ذلك هدايات الإنسان إلى مصالحه من أغذيته وأدويته وأمور دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض إلى معايشها ومصالحها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٩٥
يقال : إن الأفعى إذا أتى عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله تعالى أن تمسح عينيها بورق الرازيانج الغض فيردّ إليها بصرها، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام فتطوي تلك المسافة على طولها وعماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها فترجع باصرة بإذن الله تعالى.
وقيل :﴿فهدى﴾ أي : دلهم بأفعاله على توحيده، وكونه عالماً قادراً، والاستدلال بالخلق والهداية معتمد الأنبياء، قال إبراهيم عليه السلام ﴿الذي خلقني فهو يهدين﴾ (الشعراء : ٧٨)
وقال موسى عليه السلام لفرعون :﴿ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾ (طه : ٥٠)
ولما ذكر سبحانه ما يختص بالناس اتبعه ما يختص بالحيوان فقال تعالى :
﴿والذي أخرج المرعى﴾ أي : أنبت ما ترعاه الدواب. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المرعى الكلأ الأخضر.
﴿فجعله﴾ أي : بعد أطوار من زمن إخراجه بعد خضرته ﴿غثاء﴾ أي : جافاً هشيماً ﴿أحوى﴾ أي : أسود يابساً. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون أحوى حالاً من المرعى أي : أخرجه أحوى أي : أسود من شدّة الخضرة والري فجعله غثاء بعد حويه. وقال ابن زيد : هذا مثل ضربه الله تعالى للكفار ولذهاب الدنيا بعد نضارتها.