وإن كان النبيّ ﷺ يجب عليه تذكيرهم نفعتهم الذكرى أم لم تنفعهم. وقال ابن عباس : نزلت في ابن أمّ مكتوم. وقيل : في عثمان بن عفان. قال الماوردي : وقد تذكر من يرجوه إلا أن تذكر الخاشع أبلغ فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء. وقال القشيري : المعنى : عمم أنت بالتذكير والوعظ وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء. فإن قيل : التذكير إنما يكون بشيء قد علم، وهؤلاء لم يزالوا كفاراً معاندين أجيب : بأنّ ذلك لظهوره وقوّة دليله، كأنه معلوم لكنه يزول بسبب التقليد والفساد.
تنبيه : السين في قوله تعالى :﴿سيذكر﴾ يحتمل أن تكون بمعنى سوف، وسوف من الله تعالى
٥٩٨
واجب كقوله تعالى :﴿سنقرئك فلا تنسى﴾ ويحتمل أن يكون المعنى : أنّ من خشي فإنه يتذكر وإن كان بعد حين بما يستعمله من التدبر والنظر.
ولما بين تعالى من ينتفع بالذكرى بين من لا ينتفع بها بقوله تعالى :
﴿ويتجنبها﴾ أي : الذكرى أن يتركها جانباً لا يلتفت إليها ﴿الأشقى﴾.
﴿الذي يصلى النار﴾ وهو الكافر. فإن قيل : الأشقى يستدعي وجود شقي فكيف قال هذا القسم ؟
أجيب : بأنّ لفظ الأشقى من غير مشاركة كقوله تعالى :﴿أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرّاً وأحسن مقيلاً﴾ (الفرقان : ٢٤)، وقوله تعالى :﴿وهو أهون عليه﴾ (الروم : ٢٧)
. قال الرازي : الفرق ثلاثة العارف والمتوقف والمعاند، فالسعيد هو العارف، والمتوقف له بعض الشقاوة، والأشقى هو المعاند. وقال الزمخشري : الأشقى هو الكافر ؛ لأنه أشقى من الفاسق، أو الذي هو أشقى الكفرة ؛ لتوغله في معاداة النبيّ ﷺ وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعقبة بن ربيعة.
واختلف في قوله تعالى :﴿الكبرى﴾ أي : العظمى على وجوه : أحدها : قال الحسن : هي نار جهنم، والصغرى نار الدنيا. ثانيها : أنّ في الآخرة نيراناً ودركات متفاضلة، فكما أنّ الكافر أشقى العصاة فكذلك يصلى أعظم النيران. ثالثها : أنّ النار الكبرى هي النار السفلى فهي نصيب الكفار، كما قال تعالى :﴿إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار﴾ (النساء : ١٤٥)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٩٥
فإن قيل : قوله تعالى :
﴿ثم لا يموت فيها ولا يحيى﴾ يقتضي أن ثم حالة غير الحياة والموت، وذلك غير معقول. أجيب : عن ذلك بوجهين : أحدهما : لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه كما قال تعالى :﴿لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها﴾ (فاطر : ٣٦)
وهذا جاء على مذهب العرب يقولون للمبتلى بالبلاء الشديد لا هو حيّ ولا هو ميت. ثانيهما : أنّ نفس أحدهم في النار في حلقة لا تخرج فيموت، ولا ترجع إلى موضعها فيحيا.
تنبيه : قوله تعالى : ثم للتراخي بين الرتب في الشدّة.
ولما ذكر تعالى وعيد من أعرض عن النظر في دلائل الله تعالى أتبعه بالوعد لضدّه فقال تعالى :
﴿قد أفلح﴾ أي : فاز بكل مراد ﴿من تزكى﴾ أي : تطهر من الكفر بالإيمان ؛ لما روي عن ابن عباس أنّ رسول الله ﷺ قال :"قد أفلح من تزكى وشهد أي لا إله إلا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله". وقيل : تطهر للصلاة وأدّى الزكاة.
﴿وذكر اسم ربه﴾ أي : بقلبه ولسانه مكبراً ﴿فصلى﴾ أي : الصلوات الخمس. قال الزمخشري : وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح وعلى أنها ليست من الصلاة ؛ لأنّ الصلاة معطوفة عليها. وقال قتادة : تزكى : عَمِلَ صالحاً. وعن عطاء نزلت في صدقة الفطر. قال ابن سيرين : قد أفلح من تزكى، قال : خرج فصلى بعد ما أدّى زكاة الفطر وصلى صلاة العيد. قال بعضهم : لا أدري ما وجه هذا التأويل فإنّ هذه السورة مكية ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. وأجاب البغوي : بأنه يجوز أن يكون النزول سابقاً على الحكم كقوله تعالى :﴿وأنت حل بهذا البلد﴾ (البلد : ٢)
والسورة مكية وظهر أثر الحل يوم الفتح قال ﷺ "أحلت لي ساعة من نهار". وقيل :
٥٩٩
المراد زكاة الأعمال لا زكاة الأموال، أي : زكى أعماله من الرياء والتقصير. وروي عن عطاء أنه قال : إنّ هذه الآية نزلت في عثمان، وذلك أنه كان بالمدينة منافق له نخلة مائلة إلى دار رجل من الأنصار، إذا هبت الريح تساقط منها بسر ورطب في دار الأنصاري فيأكل هو وعياله من ذلك، فخاصمه المنافق، فذكر الأنصاري ذلك للنبيّ ﷺ فأرسل خلف المنافق وهو لا يعلم نفاقه فقال له النبيّ ﷺ "إنّ أخاك الأنصاري ذكر أنّ بسرك ورطبك يقع في منزله فيأكل هو وعياله منه فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنة بدلها ؟
قال : أبيع عاجلاً بآجل لا أفعل" فذكروا أنّ عثمان قد أعطاه حائطاً من نخل بدل نخلته. ويقول فيه :﴿قد أفلح من تزكى﴾ وفي المنافق ﴿ويتجنبها الأشقى﴾ وقال الضحاك : نزلت في أبي بكر
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٩٥


الصفحة التالية
Icon