﴿كيف خلقت﴾، أي : خلقاً عجيباً دالاً على كمال قدرته وحسن تدبيره، حيث خلقها للنهوض بالأثقال وجرّها إلى البلاد النائية فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر، ثم تنهض بما حملت وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها لا تعارض ضعيفاً ولا تنازع صغيراً وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار. وعن بعض الحكماء أنه حدّث عن البعير وبديع خلقه وقد نشأ في بلاد لا إبل بها فتفكر، ثم قال : يوشك أن تكون طوال الأعناق وحين أراد بها أن تكون سفائن البرّ صبرها على احتمال العطش، حتى إنّ ظماءها لتصبر على عشر فصاعداً ليتأتى لها قطع البراري والمفاوز مع ما لها من منافع أخر، ولذلك خصت بالذكر لبيان الآيات المثبتة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعاً، ولأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع لأنها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز مما لا ترعاه سائر البهائم.
وعن سعيد بن جبير قال : لقيت شريحاً القاضي فقلت له : أين تريد ؟
قال : أريد الكناسة، قلت : وما تصنع بها ؟
قال : أنظر إلى الإبل كيف خلقت.
تنبيه : الإبل اسم جمع واحده بعير وناقة وجمل ولا واحد لها من لفظها. وقال المبرد : الإبل هنا القطع العظيمة من السحاب. قال الثعلبي : ولم أجد لذلك أصلاً في كتب الأئمة.
وقال الماوردي : وفي الإبل وجهان : أظهرهما : أنها الإبل، والثاني : أنها السحاب فإن كان المراد بها
٦٠٥
السحاب فلما فيها من الآيات والدلالات الدالة على قدرته والمنافع العامّة لجميع خلقه، وإن كان المراد بها الإبل فلأنّ الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوانات لأنّ ضروب الحيوان أربعة حلوبة وركوبة وأكولة وحمولة والإبل تجمع هذه الخلال الأربع، فكانت النعمة بها أعم وظهور القدرة فيها أتم وقيل للحسن : الفيل أعظم من الأعجوبة فقال العرب : بعيدة العهد بالفيل ثم هو لا يؤكل لحمه ولا يركب ولا يحلب درّه.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٠٥
وإلى السماء﴾
التي هي من جملة مخلوقاتنا ﴿كيف رفعت﴾، أي : رفعاً بعيداً بلا إمساك وبغير عمد على ما لها من السعة والكبر والثقل والإحكام، وما فيها من الكواكب والغرائب والعجائب.
﴿وإلى الجبال﴾، أي : الشامخة وهي أشد الأرض ﴿كيف نصبت﴾ نصباً ثابتاً فهي راسية لا تميل ولا تزول كما قال تعالى :﴿وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم﴾ (الأنبياء : ٣١)
﴿وإلى الأرض﴾، أي : على سعتها ﴿كيف سطحت﴾ سطحاً بتمهيد وتوطئة فهي مهاد للتقلب عليها. واستدلّ بعضهم بذلك على أنّ الأرض ليست بكرة. قال الرزاي : وهو ضعيف لأنّ الكرة إذا كانت في غاية العظمة تكون كل قطعة منها كالسطح. فإن قيل : كيف حسن ذكر الإبل مع السماء والجبال والأرض ولا مناسبة ؟
أجيب : بأنّ من فسرها بالسحاب فالمناسبة ظاهرة، وذلك على طريق التشبيه والمجاز، ومن فسرها بالإبل فالمناسبة بينها وبين السماء والأرض والجبال من وجهين :
أحدهما : أنّ القرآن نزل على العرب وكانوا يسافرون كثيراً ويسيرون عليها في أوديتهم وبواديهم مستوحشين ومنفردين عن الناس، والإنسان إذا انفرد أقبل على التفكر في الأشياء لأنه ليس معه من يحادثه وليس هناك ما يشغل به سمعه وبصره، فلا بدّ من أن يجعل دأبه التفكر فإذا تفكر في تلك الحال فأوّل ما يقع بصره على البعير الذي هو راكبه فيرى منظراً عجيباً، وإن نظر إلى فوق لم ير غير السماء وإن نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال، وإن نظر إلى تحت لم ير غير الأرض فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر.
ثانيهما : أنّ جميع المخلوقات دالة على الصانع جلت قدرته إلا أنها قسمان منها ما للشهوة فيه حظ كالوجه الحسن والبساتين النزهة والذهب والفضة، فهذه مع دلالتها على الصانع قد يمنع استسحانها عن كمال النظر فيها ومنها ما لا حظ فيه للشهوة كهذه الأشياء فأمر بالنظر فيها ؛ إذ لا مانع من إكمال النظر فيها. وقال عطاء عن ابن عباس : كأن الله تعالى يقول هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل، أو يرفع مثل السماء، أو ينصب مثل الجبال، أو يسطح مثل الأرض غيري.
ولما بين تعالى الدلائل على صحة التوحيد والمعاد قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم
﴿فذكر﴾، أي : بنعم الله تعالى ودلائل توحيده وعظهم بذلك وخوّفهم يا أشرف الخلق ﴿إنما أنت مذكر﴾ فلا عليك أن لا ينظروا ولم يذكروا أو ما عليك إلا البلاغ كما قال تعالى :﴿إن عليك إلا البلاغ﴾ (الشورى : ٤٨)
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٠٥
لست عليهم بمسيطر﴾
، أي : بمسلط فتقتلهم وتكرههم على الإيمان كقوله تعالى :﴿وما أنت عليهم بجبار﴾ (ق : ٥٠)
وهذا قبل الأمر بالجهاد. وقرأ هشام بالسين وقرأ حمزة بخلاف عن خلف بإشمام الصاد كالزاي، والباقون بالصاد الخالصة.
٦٠٦
وقوله تعالى :﴿إلا من تولى﴾ استثناء منقطع، أي : لكن من تولى عن الإيمان ﴿وكفر﴾، أي : بالقرآن.
﴿فيعذبه الله﴾، أي : الذي له الكمال كله بسبب تكبره عن الحق ومخالفته لأمرك ﴿العذاب الأكبر﴾، أي : عذاب الآخرة لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر. وقيل : استثناء متصل فإنّ جهاد الكفار وقتلهم تسليط فكأنه أوعدهم بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة وقيل : هو استثناء من قوله تعالى :﴿فذكر﴾ إلا من انقطع طمعك من إيمانه، وتولى فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض.
﴿إن إلينا﴾، أي : خاصة بما لنا من العظمة ﴿إيابهم﴾، أي : رجوعهم بعد البعث.
﴿ثم إنّ علينا﴾، أي : خاصة بما لنا من القدرة والتنزه عن نقص العيب والجور وكل نقص لا على غيرنا ﴿حسابهم﴾، أي : جزاءهم فلا نتركه أبداً، وفي هذا تسلية للنبيّ ﷺ فإنه كان يشق عليه تكذيبهم.
فإن قيل : ما معنى تقديم الظرف ؟
أجيب : بأنّ معناه التشديد في الوعيد، وإنّ إيابهم إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، وإنّ حسابهم ليس إلا عليه وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري : إنّ النبيّ ﷺ قال :"من قرأ الغاشية حاسبه الله حساباً يسيراً" حديث موضوع.
٦٠٧
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٠٥


الصفحة التالية
Icon