﴿كلا﴾، أي : ليس الإكرام بالغنى والإهانة بالفقر إنما هما بالإطاعة والمعصية، وكفار مكة لا ينتبهون لذلك ﴿بل﴾ لهم فعل أشر من هذا القول وهو أنهم ﴿لا يكرمون اليتيم﴾، أي : لا يحسنون إليه مع غناهم، أو لا يعطونه حقه من الميراث. قال مقاتل : كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف فكان يدفعه فنزلت :
﴿ولا يحضون﴾، أي : يحثون حثاً عظيماً ﴿على طعام﴾، أي : إطعام ﴿المسكين﴾ فيكون اسم مصدر بمعنى الإطعام، ويجوز أن يكون على حذف مضاف، أي : على بذل أو على إعطاء، وفي إضافته إليه إشارة إلى أنه شريك للغنيّ في ماله بقدر الزكاة.
﴿ويأكلون﴾ على سبيل التجدد والاستمرار ﴿التراث﴾، أي : الميراث والتاء في التراث بدل من واو لأنه من الوراثة.
٦١٣
﴿أكلاً لماً﴾، أي : ذا لم واللمّ الجمع الشديد. يقال : لممت الشيء لماً، أي : جمعته جمعاً. قال الحطيئة :
*إذا كان لما يتبع الذم ربه ** فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا*
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦١٢
والجمع بين الحلال والحرام فإنهم كانوا يورثون النساء والصبيان ويأكلون انصباءهم ويأكلون ما جمعه المورث من حلال وحرام عالمين بذلك، فيلمون في الأكل بين حلاله وحرامه ويجوز أن يذمّ الوارث الذي ظفر بالمال مهلاً مهلاً من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلاً واسعاً جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه كما يفعل البطالون.
ولما دل على حب الدنيا بأمر خارجي دل عليه في الإنسان فقال تعالى :
﴿ويحبون﴾، أي : على سبيل الاستمرار ﴿المال﴾، أي : هذا النوع من، أي : شيء كان وأكد بالمصدر والوصف فقال تعالى ﴿حباً جماً﴾، أي : كثيراً شديداً مع الحرص والشره ومنع الحقوق. وقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦١٢
والجمع بين الحلال والحرام فإنهم كانوا يورثون النساء والصبيان ويأكلون انصباءهم ويأكلون ما جمعه المورث من حلال وحرام عالمين بذلك، فيلمون في الأكل بين حلاله وحرامه ويجوز أن يذمّ الوارث الذي ظفر بالمال مهلاً مهلاً من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلاً واسعاً جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه كما يفعل البطالون.
ولما دل على حب الدنيا بأمر خارجي دل عليه في الإنسان فقال تعالى :
﴿ويحبون﴾، أي : على سبيل الاستمرار ﴿المال﴾، أي : هذا النوع من، أي : شيء كان وأكد بالمصدر والوصف فقال تعالى ﴿حباً جماً﴾، أي : كثيراً شديداً مع الحرص والشره ومنع الحقوق. وقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦١٢
﴿كلا﴾ ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم. ثم أخبر تعالى عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم فقال عز من قائل :﴿إذا دكت الأرض﴾، أي : حصل دكها ورجها وزلزلتها لتسويتها فتكون كالأديم الممدود بشدّة المط لا عوج فيها بوجه ﴿دكاً دكاً﴾، أي : مرّة بعد مرّة، وكسر كل شيء على ظهرها من جبل وبناء وشجر فلم يبق على ظهرها شيء وينعدم.
﴿وجاء ربك﴾ قال الحسن : أمره وقضاؤه ﴿والملك﴾، أي : الملائكة. وقوله تعالى :﴿صفاً صفاً﴾ حال، أي : مصطفين، أي : ذوي صفوف كثيرة فتنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس.
﴿وجيء﴾، أي : بأسهل أمر ﴿يومئذ﴾، أي : إذ وقع ما ذكر ﴿بجهنم﴾، أي : النار التي تتجهم من يصلاها كقوله تعالى :﴿وبرزت الجحيم﴾ (النازعات : ٣٦)
ويروى "أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله ﷺ فعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه فأخبروا علياً فجاء فاحتضنه من خلفه وقبل ما بين عاتقيه، ثم قال : يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم وما الذي غيرك فتلا عليه الآية. فقال له علي : كيف يجاء بها ؟
قال : يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، ثم تعرض لي جهنم فتقول : ما لك ولي يا محمد إنّ الله تعالى قد حرم لحمك علي فلا يبقى أحد إلا قال : نفسي نفسي إلا محمد ﷺ فيقول : رب أمّتي أمّتي". وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : تقاد جهنم بسبعين ألف زمام كل زمام بيد ألف ملك لها تغيظ وزفير حتى تنصب على يسار العرش.
وقوله تعالى :﴿يومئذ﴾، أي : يوم يجاء بجهنم بدل من إذ وجوابها ﴿يتذكر الإنسان﴾، أي : يتذكر الكافر ما فرط أو يتعظ لأنه يعلم قبح معاصيه فيندم عليها ﴿وأنى له الذكرى﴾، أي : ومن أين له منفعة الذكرى. قال الزمخشري : لا بد من حذف مضاف وإلا فبين ﴿يتذكر﴾ وبين ﴿وأنى له الذكرى﴾ تناف وتناقض.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦١٤
تنبيه : أنى خبر مقدّم والذكرى مبتدأ مؤخر وله متعلق بما تعلق به الظرف. وقرأ ﴿وأنى﴾ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، وقرأ الدوري عن أبي عمرو
٦١٤
بالإمالة بين بين والباقون بالفتح. وقرأ ﴿الذكرى﴾ أبو عمرو وحمزة والكسائيّ بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين بين، والباقون بالفتح.
﴿يقول﴾، أي : يقول مع تذكره ﴿يا﴾ للتنبيه ﴿ليتني قدّمت لحياتي﴾، أي : في حياتي فاللام بمعنى في، أو قدّمت الإيمان والخير لحياة لا موت فيها، أو وقت حياتي في الدنيا.
﴿فيومئذ﴾، أي : يوم يقول الإنسان ذلك وقرأ ﴿لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد﴾ الكسائي بفتح الذال والثاء على البناء للمفعول، والباقون بكسرهما على البناء للفاعل فأمّا قراءة الكسائي فضمير عذابه ووثاقه للكافر، والمعنى : لا يعذب أحد مثل تعذيبه ولا يوثق مثل إيثاقه، وأما على قراءة الباقين فالضمير فيهما لله تعالى إلى غيره، أو الزبانية المتولين العذاب بأمر الله تعالى.
ولما وصف الله تعالى حال من اطمأن إلى الدنيا وصف حال من اطمأن إلى معرفته وعبوديته وسلم أمره إليه فقال تعالى :
﴿يا أيتها النفس المطمئنة﴾ قال الحسن، أي : المؤمنة الموقنة. وقال مجاهد : الراضية بقضاء الله تعالى. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بثواب الله تعالى. وقال ابن كيسان : المخلصة. وقال ابن زيد : التي بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث ويوم الجمع، ويقال لها : عند الموت.
﴿ارجعي إلى ربك﴾، أي : إلى أمره وإرادته وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : على صاحبك وجسدك. وقال الحسن : إلى ثواب ربك. ﴿راضية﴾، أي : بما أوتيته ﴿مرضية﴾، أي : عند الله تعالى بعملك، أي : جامعة بين الوصفين لأنه لا يلزم من أحدهما الآخر، وهما حالان. قال القفال : هذا وإن كان أمراً في الظاهرة فهو خبر في المعنى، والتقدير : أنّ النفس إذا كانت مطمئنة رجعت إلى الله تعالى في القيامة بسبب هذا الأمر.
﴿فادخلي في﴾، أي : في جملة ﴿عبادي﴾، أي : الصالحين والوافدين عليّ الذين هم أهل الإضافة إليّ، أو في أجساد عبادي التي خرجت في الدنيا منها.
﴿وادخلي جنتي﴾، أي : معهم، هي جنة عدن وهي أعلى الجنان ويجيء الأمر بمعنى الخبر كثيراً في كلامهم كقولهم إذا لم تستح فاصنع ما شئت. وقال سعيد بن زيد :"قرأ رجل عند النبيّ ﷺ هذه الاية فقال أبو بكر : ما أحسن هذا يا رسول الله فقال له : إنّ الملك سيقوله لك يا أبا بكر". وقال سعيد بن جبير : مات ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالطائف فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط فدخل نعشه لم ير خارجاً منه فلما دفن تليت هذه الاية على شفير القبر لا يدرى من تلاها ﴿يا أيتها النفس﴾ الآية. وروى الضحاك أنها نزلت في عثمان حين وقف بئر رومة وقيل : في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال : اللهمّ إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك، فحوّل الله تعالى وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوّله. وقيل : نزلت في حمزة بن عبد المطلب. قال الزمخشري : والظاهر العموم. وقول البيضاوي تبعاً له أنّ رسول الله ﷺ قال :"من قرأ سورة الفجر في الليالي العشر غفر له ومن قرأها في سائر الأيام كانت له نوراً يوم القيامة" حديث موضوع.
٦١٥
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦١٤


الصفحة التالية
Icon