﴿أيحسب﴾، أي : أيظنّ الإنسان قويّ قريش، وهو أبو الأشدين بقوّته، قوله أبي الأشدين هكذا في النسخ بصيغة التثنية، وفي حاشية الجمل، والأشد هكذا بالإفراد في كثير من نسخ هذا الشرح، وكثير من عبارات المفسرين، وفي بعض نسخ هذا الشرح وكثير من من التفاسير الأشدين بصيغة التثنية فليحرّر اه. ﴿أن﴾ مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، أي : أنه ﴿لن يقدر عليه﴾، أي : خاصة ﴿أحد﴾، أي : من أهل الأرض أو السماء فيغلبه حتى أنه يعاند خالقه، والله تعالى قادر عليه في كل وقت. وقيل : نزلت في المغيرة بن الوليد المخزومي.
﴿يقول﴾، أي : يفتخر بقوّته وشدّته ﴿أهلكت﴾، أي : على عداوة محمد ﷺ ﴿مالاً لبداً﴾، أي : كثيراً بعضه على بعض.
﴿أيحسب﴾، أي : هذا الإنسان العنيد بقلة عقله ﴿أن﴾، أي : أنه ﴿لم يره أحد﴾ قال سعيد بن جبير : ، أي : أظنّ أن الله تعالى لم يره ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟
وقال الكلبي : إنه كان كاذباً في قوله أنه أنفقه ولم ينفق جميع ما قال، والمعنى : أيظنّ أن الله تعالى لم ير ذلك منه فيعلم مقدار نفقته.
وقرأ ﴿أيحسب﴾ في الموضعين ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها ثم ذكره نعمه عليه ليعتبر بقوله تعالى :
أي : بما لنا من القدرة التامّة ﴿له عينين﴾ يبصر بهما المرئيات وإلا تعطل عليه أكثر مايريد، شققناهما وهو في الرحم في ظلمات ثلاث على مقدار مناسب لا تزيد إحداهما على الأخرى شيئاً، وقدرنا البياض والسواد والشهلة والزرقة وغير ذلك على ماترون، وأودعناهما البصر على كيفيةٍ يعجز الخلق عن إدراكهما.
٦١٨
﴿ولساناً﴾ يترجم به عن ضمائره ﴿وشفتين﴾ يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك. قال قتادة : نِعَمُ الله تعالى عليه متظاهرة فيقررّه بها كي يشكره. قال البغوي : وجاء في الحديث أن الله تعالى يقول :"يا ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق".
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦١٦
وهديناه﴾
، أي : أتيناه من العقل ﴿النجدين﴾ قال أكثر المفسرين : بيّنا له طريق الخير والشر والهدى والضلال والحق والباطل كقوله تعالى :﴿إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإمّا كفوراً﴾ (الإنسان : ٣)
وصار بما جعلناه له من ذلك سميعاً بصيراً عالماً، فصار موضعاً للتكليف. روى الطبراني أنه ﷺ قال :"يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإنّ ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى، يا أيها الناس إنما هما نجدان نجد خير ونجد شرّ فلم جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير". قال المنذري : النجد هنا الطريق. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بيّنا له الثديين، وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك، وأصله المكان المرتفع.
﴿فلا اقتحم العقبة﴾، أي : فهلا أنفق ماله فيما يجوز به العقبة من فك الرقاب وإطعام المساكين والأيتام بل غمط النعم وكفر بالمنعم.
والمعنى : أن الإنفاق على هذا الوجه هو الإنفاق المرضي النافع عند الله تعالى، لا أن يهلك مالاً لبداً في الرياء والفخر وعداوة النبي ﷺ فيكون على هذا الوجه ﴿كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم﴾ (آل عمران : ١١٧)
الآية. وقيل : معناه لم يقتحمها و لاجاوزها و الاقتحام الدخول في الأمر الشديد، وذكر العقبة مثل ضربة الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البرّ فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة يقول الله تعالى لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام، وهذا معنى قول قتادة وقيل : إنه شبه ثقل الذنوب على مرتكبها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وأطعم المساكين كان كمن اقتحم العقبة وجاوزها وروى عن ابن عمر أنّ هذه العقبة جبل في جهنم، وقال الحسن : هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله تعالى ومجاهدة النفس.
وقال مجاهد : هي الصراط يضرب على متن جهنم كحد السيف مسيرة ثلاثة آلاف سنة صعوداً وهبوطاً واستواء، وإنّ بجنبيه كلاليب وخطاطيف كأنها شوك السعدان، فناجٍ مسلم وناجٍ مخدوش، ومكردس في النار منكوس، وفي الناس من يمرّ كالريح العاصف، ومنهم من يمرّ كالرجل يعدو، ومنهم من يمرّ كالرجل يسير، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم الزالون، ومنهم من يكردس في النار. وقال ابن زيد : فهلا سلك طريق النجاة.
وقوله تعالى :﴿وما أدراك﴾، أي : أعلمك أيها السامع لكلامنا الراغب فيما عندنا ﴿ما العقبة﴾ تعظيم لشأنها والجملة اعتراض قال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه ﴿وما أدراك﴾ فإنه أخبر به وما كان، قال :﴿وما يدريك﴾ فإنه لم يخبر به،
٦١٩
ثم بين سبب جوازها بقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦١٦


الصفحة التالية
Icon