قال البغوي : وهذا بين أنّ الله تعالى خلق في المؤمن التقوى وفي الكافر الفجور وعن أبي الأسود الدؤلي قال : قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضى عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلونه مما أتاهم به نبيهم ﷺ وثبتت الحجة عليهم ؟
قلت : بل شيء قضى عليهم، ومضى عليهم، فقال : أفلا يكون ظلماً ؟
قال : ففزعت منه فزعاً شديداً وقلت : إنه ليس شيء إلا وهو خلقه وملك يده ﴿لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون﴾ (الأنبياء : ٢٣)
فقال لي سدّدك الله إنما سألتك لأختبر عقلك. إنّ رجلاً من جهينة أو مزينة أتى النبيّ ﷺ فقال :"يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويكادحون فيه أشيء قضى الله عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وأكدت به الحجة، فقال : في شيء قد مضى عليهم، قال فقلت : ففيم العمل الآن ؟
قال : من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه الله لها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٢٢
وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى :
٦٢٣
﴿ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها﴾". وعن جابر قال :"جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أو فيما يستقبل ؟
قال :"بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. قال : ففيم العمل ؟
قال : اعملوا وكل ميسر لما خلق له". واختلف في جواب القسم فأكثر المفسرين على أنه :
﴿قد أفلح﴾، أي : ظفر بجميع المرادات، والأصل : لقد وإنما حذفت لطول الكلام. وقيل : إنه ليس بجواب وإنما جيء به تابعاً لقوله تعالى :﴿فألهمها فجورها وتقواها﴾ على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء، والجواب محذوف تقديره : ليدمدمن الله عليهم، أي : أهل مكة لتكذيبهم رسول الله ﷺ كما دمدم على ثمود ؛ لأنهم قد كذبوا صالحاً أو لتبعثن وقيل : هو على التقديم والتأخير من غير حذف.
والمعنى :﴿قد أفلح من زكاها﴾، أي : طهرها من الذنوب ونماها وأصلحها، وصفاها تصفية عظيمة مما يسره الله تعالى له من العلوم النافعة والأعمال الصالحة ﴿وقد خاب﴾، أي : خسر ﴿من دساها﴾، أي : أغواها إغواءً عظيماً أو أفسدها وأهلكها بخبائث الاعتقادات، ومساوئ الأعمال وقبائح السيئات. ﴿والشمس وضحاها﴾ وفاعل زكاها ودساها ضمير من، وقيل : ضمير الباري سبحانه، أي : قد أفلح من زكاها بالطاعة، ﴿وقد خاب من دساها﴾، أي : خسرت نفسٌ دساها الله تعالى بالمعصية. وأنكر الزمخشري على صاحب هذا القول لمنافرته مذهبه، ولكن قال بعض المفسرين : الحق أنه خلاف الظاهر لا كما قاله الزمخشري. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : خابت نفس أضلها الله تعالى وأغواها، وأصل الزكاة النموّ والزيادة، ومنه زكى الزرع إذا كثر ريعه، ومنه تزكية القاضي الشاهد ؛ لأنه يرفعه بالتعديل. وأصل دساها دسسها من التدسيس، وهو إخفاء الشيء فأبدل من السين الثانية ياء، والمعنى : أخملها وأخفى محلها بالكفر والمعصية، وعن زيد بن أرقم قال : كان رسول الله ﷺ يقول :"اللهمّ إني أعوذ بك من العجز والكسل والبخل والجبن والهمّ". وفي رواية :"والهرم وعذاب القبر اللهمّ آت نفسي تقواها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهمّ إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن نفس لا تشبع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعوة لا يستجاب لها".
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٢٢
﴿كذبت ثمود﴾ وهم قوم صالح، كذبوا رسولهم صالحاً عليه السلام وأنث فعلهم لضعف أثر تكذيبهم ؛ لأنّ كل سامع له يعرف ظلمهم فيه لوضوح آيتهم ﴿بطغواها﴾، أي : أوقعت التكذيب لرسولها بكل ما أتى به عن الله تعالى، أي : طغيانها. وقيل : إن الباء للاستعانة. قال الزمخشري : مثلها في كتبت بالقلم. والطغوى من الطغيان فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء بأن قلبوا الياء واواً في الاسم، وتركوا القلب في الصفة، فقالوا : امرأة خزياً وصدياً، يعني : فعلت
٦٢٤
التكذيب بطغيانها كما تقول : ظلمني بجراءته على الله تعالى. وقيل : كذبت بما أوعدت به من عذاب ذي الطغوى كقوله تعالى :﴿فأهلكوا بالطاغية﴾ (الحاقة : ٥)
﴿إذ﴾، أي : تحقق تكذيبهم أو طغيانهم بالفعل حين ﴿انبعث أشقاها﴾، أي : قام وأسرع وذلك أنهم لما كذبوا بالعذاب، وكذبوا صالحاً عليه السلام انبعث أشقى القوم وهو قدار بن سالف وكان رجلاً أشقر أزرق قصيراً فعقر الناقة، وعن عبد الله بن زمعة أنه سمع النبيّ ﷺ يخطب فذكر الناقة والذي عقرها فقال رسول الله ﷺ "﴿إذ انبعث أشقاها﴾ انبعث لها رجل عزيز عارم متبع في أهله مثل أبي زمعة". وقوله : عارم، أي : شديد ممتنع. قال الزمخشري : ويجوز أن يكونوا جماعة. والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
تنبيه : إذ منصوب بكذبت أو بطغواها.


الصفحة التالية
Icon