﴿أن رآه﴾ أي : رأى نفسه ﴿استغنى﴾ أي : وجد له الغنى بالمال وقيل : أن يرتفع عن منزلته في اللباس والطعام وغير ذلك. نزلت في أبي جهل كان إذا زاد ماله زاد في ثيابه ومركبه وطعامه فذلك طغيانه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون أتاه أبو جهل، فقال : يا محمد أتزعم أنّ من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهباً لعلنا نأخذ فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك، قال : فأتاه جبريل عليه السلام فقال : يا محمد خيرهم في ذلك فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوا، فإن لم يفعلوا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة، فكف رسول الله ﷺ عن الدعاء إبقاء لهم. وقيل :﴿أن رآه استغنى﴾ بالعشيرة والأنصار والأعوان، وحذف اللام من قوله تعالى :﴿أن رآه﴾ كما يقال إنكم لتطغون أن رأيتم غناكم، فرأى علمية واستغنى مفعول ثان، وأن رأى مفعول له.
﴿إنَّ إلى ربك﴾ أي : المحسن إليك بالرسالة التي رفع بها ذكرك لا إلى غيره ﴿الرجعى﴾ مصدر كالبشرى بمعنى الرجوع، ففي ذلك تخويف للإنسان بأن يجازي العاصي بما يستحقه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٤٩
وقوله تعالى :﴿أرأيت﴾ في مواضعها الثلاث للتعجب ﴿الذي ينهى﴾ أي : على سبيل التجدد والاستمرار وهو أبو جهل.
﴿عبداً﴾ أي : من العبيد وهو النبيّ ﷺ ﴿إذا صلى﴾ أي : خدم سيده الذي لا يقدر أحد أن ينكر سيادته بإيقاع الصلاة التي هي أعظم العبادات. نزلت في أبي جهل وذلك أنه نهى النبيّ ﷺ عن الصلاة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ "قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟
فقالوا : نعم. فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته، ولأعفرنّ وجهه في التراب، . قال : فأتى رسول الله ﷺ وهو يصلي ليطأ على رقبته فنكص على عقبيه وهو يتقي بيده، فقيل : له : مالك ؟
، فقال : إن بيني وبينه خندقاً من النار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله ﷺ لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً فأنزل الله تعالى هذه الآية". وفي رواية "لو فعله لأخذته
٦٥٠
الملائكة" زاد الترمذي :"عياناً". وعن الحسن أنه أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة وفائدة التنكير في قوله تعالى :﴿عبداً﴾ الدلالة على أنه كامل العبودية، كأنه قيل : ينهى أشدّ الخلق عبودية عن العبادة وهذا عين الجهل.
وقيل : إن هذا الوعيد يلزم كل من ينهى عن الصلاة عن طاعة الله تعالى ولا يدخل في ذلك المنع من الصلاة في الدار المغصوبة، وفي الأوقات المكروهة لأنه قد ورد النهي عن ذلك في الأحاديث الصحيحة ولا يدخل أيضاً منع السيد عبده والرجل زوجته عن صوم التطوّع وقيام الليل والاعتكاف، لأنّ ذلك مصلحة إلا أن يأذن فيه السيد والزوج.
﴿أرأيت إن كان﴾ أي : المنهي وهو النبيّ ﷺ ﴿على الهدى﴾ وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء، وعن ورش إبدالها ألفاً، وأسقطها الكسائي، والباقون بالتحقيق
وقوله تعالى :﴿أو أمر بالتقوى﴾ أي : بالإخلاص والتوحيد للتقسيم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥٠
تنبيه : قوله تعالى :﴿أرأيت﴾ تكرير للأوّل وكذا الذي في قوله :
﴿أرأيت إن كذب﴾ وهو أبو جهل ﴿وتولى﴾ عن الإيمان.
﴿ألم يعلم﴾ أي : يقع له علم يوماً من الأيام ﴿بأن الله﴾ الذي له صفات الكمال ﴿يرى﴾ ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب ذلك، أي : أعجب منه يا مخاطب في نهيه عن الصلاة من حيث إنّ المنهي على الهدى آمر بالتقوى وفي وجه التعجب وجوه :
أحدها : إنه ﷺ قال "اللهمّ أعز الإسلام إمّا بأبي جهل وإمّا بعمر بن الخطاب" وهو ينهى عبداً إذا صلى.
الثاني : إنه يلقب بأبي الحكم فقيل : أيلقب بهذا وهو ينهى عن الصلاة فيتعجب منه، ومن حيث أن الناهي مكذب متول عن الإيمان.
الثالث : إنه كان يأمر وينهى ويعتقد وجوب طاعته ثم إنه ينهى عن طاعة الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿كلا﴾ ردع للناهي ﴿لئن لم ينته﴾ أي : عما هو فيه واللام لام قسم ﴿لنسفعاً بالناصية﴾ أي : لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدّة. قال عمرو بن معديكرب :
*قوم إذا نقع الصريخ رأيتهم ** ما بين ملجم مهره أو سافع*
والنقع الصوت. ولما علم أنها ناصية المذكور اكتفى باللام عن الإضافة، والآية وإن كانت في أبي جهل فهي عظة للناس وتهديد لمن يمنع غيره عن طاعة الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ناصية﴾ بدل من الناصية قال الزمخشري : وجاز بدلها عن المعرفة وهي نكرة لأنها وصفت، أي : ب﴿كاذبة خاطئة﴾ واستقلت بفائدة واعترض عليه بأنّ هذا مذهب الكوفيين فإنهم
٦٥١


الصفحة التالية
Icon