ولما ذكر تعالى صلة الخالق أتبعها صلة الخلائق بقوله تعالى :﴿ويؤتوا الزكاة﴾ أي : يدفعوها لمستحقيها شفقة على خلق الله تعالى إعانة على الدين، أي : ولكنهم حرّفوا ذلك وبدّلوه بطبائعهم المعوجة، وتدخل الزكاة عند أهل الله تعالى في كل ما رزق الله من عقل وسمع وبصر ولسان ويد ورجل وجاه، وغير ذلك كما هو واضح من قوله تعالى :﴿وممارزقناهم ينفقون﴾ (البقرة : ٣)
. ﴿وذلك﴾ أي : والحال أنّ هذا الموصوف من العبادة على الوجه المذكور ﴿دين القيمة﴾ أي : الملة المستقيمة، وأضاف الدين إلى القيمة وهي نعته لاختلاف اللفظين، وأنث القيمة ردّاً بها إلى الملة. وقيل : الهاء للمبالغة فيه. وقيل : القيمة هي الكتب التي جرى ذكرها، أي : وذلك دين الكتب القيمة فيما تدعو إليه وتأمر به، كما قال تعالى :﴿وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾ (البقرة : ٢١٣)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٦٠
وقال النضر بن شميل : سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى :﴿وذلك دين القيمة﴾ فقال : القيمة جمع القيم، والقيم والقائم واحد. قال البغوي : ومجاز الآية : وذلك دين القائمين لله تعالى بالتوحيد.
ثم ذكر تعالى ما للفريقين فقال سبحانه :
﴿إنّ الذين كفروا﴾ أي : وقع منهم الستر لمرأى عقولهم بعد صرفها للنظر الصحيح فضلوا واستمروا على ذلك، وإن لم يكونوا عريقين فيه ﴿من أهل الكتاب﴾ أي : اليهود والنصارى ﴿والمشركين﴾ أي : العريقين في الشرك ﴿في نارجهنم﴾ أي : النار التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة ﴿خالدين فيها﴾ أي : يوم القيامة، أو في الحال لسعيهم لموجباتها. واشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب التساوي في النوع، بل يختلف بحسب اشتداد الكفر وخفته ﴿أولئك﴾ أي : هؤلاء البعداء البغضاء ﴿هم﴾ أي : خاصة بما لضمائرهم من الخبث ﴿شر البرية﴾ أي : الخليقة الذين أهملوا إصلاح أنفسهم وفرّطوا في حوائجهم ومآربهم،
٦٦٢
وهذا يحتمل أن يكون على التعميم، وأن يكون بالنسبة لعصر النبيّ ﷺ لقوله تعالى :﴿وأني فضلتكم على العالمين﴾ (البقرة : ٤٧)
أي : عالمي زمانهم، ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل من هو شرّ منهم، مثل فرعون وعاقر ناقة صالح.
ولما ذكر تعالى الأعداء وبدأ بهم لأنّ ذلك أردع لهم أتبعه الأولياء فقال تعالى مؤكداً ما للكفار من الإنكار :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٦٠
﴿إنّ الذين آمنوا﴾ أي : أقروا بالإيمان ﴿وعملوا﴾ تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ أي : هذا النوع ﴿أولئك﴾ أي : هؤلاء العالو الدرجات ﴿هم﴾ أي : خاصة ﴿خير البرية﴾ أي : على التعميم، أو برية عصرهم يأتي فيه ما مرّ. وقرأ نافع وابن ذكوان بالهمز في الحرفين لأنه من قولهم برأ الله الخلق، والباقون بالياء المشدّدة بعد الراء كالذرية ترك همزه في الاستعمال. ثم ذكر ثوابهم بقوله تعالى :
﴿جزاؤهم﴾ أي : على طاعاتهم وعظمه بقوله تعالى :﴿عند ربهم﴾ أي : المربي لهم والمحسن إليهم ﴿جنات عدن﴾ أي : إقامة لا يحولون عنها ﴿تجري﴾ أي : جرياً دائماً لا انقطاع له ﴿من تحتها﴾ أي : تحت أشجارها وغرفها ﴿الأنهار خالدين فيها﴾ أي : يوم القيامة، أو في الحال لسعيهم في موجباتها وأكد معنى الخلود تعظيماً لجزائهم بقوله تعالى :﴿أبداً رضي الله﴾ أي : بما له من نعوت الجلال والجمال ﴿عنهم﴾ أي : بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق ﴿ورضوا عنه﴾ لأنهم لم يبق لهم أمنية إلا أعطاهموها مع علمهم أنه تفضل في جميع ذلك لا يجب عليه لأحد شيء، ولا يقدره أحد حق قدره فلو أخذ الخلق بما يستحقونه لأهلكهم كما قال تعالى :﴿لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة﴾ (فاطر : ٤٥)
. وقال ابن عباس : ورضوا عنه بثواب الله عز وجل. ﴿ذلك﴾ أي : الأمر العالي الذي جوزوا به ﴿لمن خشي ربه﴾ أي : خاف المحسن إليه خوفاً يليق به فلم يركن إلى التسويف والتكاسل، فإنّ الخشية ملاك الأمر والباعث على كل خير وهي للعارفين، فإنّ الإنسان إذا استشعر عذاباً يأتيه لحقته حالة يقال لها : الخوف، وهي انخلاع القلب عن طمأنينته، فإن اشتدّ سمي : وجلاً لجولانه في نفسه، فإن اشتدّ سمي : رهباً لأدائه إلى الهرب وهي حالة المؤمنين الفارّين إلى الله تعالى. ومن غلب عليه الحب لاستغراقه في شهود الجماليات لحقته حالة تسمى مهابة ووراء هذا الخشية ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ (فاطر : ٢٨)
فمن خاف ربه هذا الخوف أنفك عن جميع ما عنده مما لا يليق بجنابه تعالى، وما فارق الخوف قلباً إلا خرب. روى أنس "أنّ النبيّ ﷺ قال لأبيّ بن كعب : إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك ﴿لم يكن الذين كفروا﴾ قال أبيّ : وسماني لك ؟
قال النبيّ ﷺ نعم فبكى أبيّ". قال البقاعي : سبب تخصيصه بذلك أنه وجد اثنين من الصحابة قد خالفاه في القراءة فرفعهما إلى النبيّ ﷺ فأمرهما فعرضا عليه فحسن لهما قال : فسقط في نفسي من التكذيب أشدّ ما يكون في الجاهلية، فضرب ﷺ في صدري ففضت عرقاً وكأنما أنظر إلى الله فرقاً، أي : خوفاً ثم قصَّ عليّ خبر التخفيف بالسبعة الأحرف، وكانت السورة التي وقع فيها الخلاف النحل، وفيها أنه تعالى يبعث رسوله ﷺ يوم البعث شهيداً، وأنه نزل عليه الكتاب تبياناً
٦٦٣
لكل شيء وهدى ورحمة، وأنه نزل عليه روح القدس بالحق ليثبت الذين آمنوا، وأنّ اليهود اختلفوا في السبت.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٦٣
وسورة لم يكن على قصرها حاوية إجمالاً لكل ما في النحل على طولها وزيادة، وفيها التحذير من الشك بعد البيان، وتقبيح حال من فعل ذلك وأنّ حاله يكون كحال الكفرة من أهل الكتاب في العناد فيكون شر البرية فقرأها ﷺ تذكيراً له بذلك كله على وجه أبلغ وأخصر ليكون أسرع له تصوّراً، فيكون أرسخ في النفس، وأثبت في القلب، وأعشق للطبع، فاختصه الله بالتثبيت، وأراد له الثبات فكان من المريدين المرادين لما وصل إلى قلبه بركة ضربة النبيّ ﷺ لصدره، وصار كلما قرأ هذه السورة الجامعة غائباً عن تلاوة نفسه مصغياً بإذن قلبه إلى روح النبوّة يتلو عليه ذلك فيدوم له حال الشهود الذي وصل إليه بسر تلك الضربة، ولثبوته في هذا المقام قال ﷺ "اقرؤكم أُبيّ". قال القرطبي : وفيه من الفقه قراءة العالم على المتعلم. وقال بعضهم : إنما قرأ النبيّ ﷺ على أبيّ ليعلم الناس التواضع، لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على دونه في المنزلة. وقيل : إنّ أبياً كان أسرع أخذاً لألفاظ رسول الله ﷺ فأراد بقراءته عليه أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع رسول الله ﷺ يقرأ عليه ويعلم غيره وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ ؛ إذ أمر الله تعالى رسوله ﷺ أن يقرأ عليه. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله ﷺ "من قرأ سورة لم يكن كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقيلاً". حديث موضوع.
٦٦٤
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٦٣


الصفحة التالية
Icon