تنبيه : ختم سبحانه وتعالى الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولى :﴿ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون﴾ وقال ههنا ﴿إنّ الله تواب رحيم﴾ لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله تعالى :﴿لا يسخر قوم من قوم﴾ ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الثانية كان الابتداء بالأمر في قوله تعالى :﴿اجتنبوا كثيراً﴾ فذكر الإثبات الذي هو قريب من الأمر. وقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٣
﴿يا أيها الناس﴾ أي : كافة المؤمن وغيره ﴿إنا﴾ أي : على مالنا من العظمة ﴿خلقناكم﴾ أي : أوجدناكم من العدم على ما أنتم عليه من المقادير﴿من ذكر وأنثى﴾ الآية مبين ومقرّر لما
٥٨
تقدّم، لأنّ السخرية من الغير وغيبته إن كان ذلك بسبب غير الدين والإيمان فلا يجوز لأنّ الناس بعمومهم كافرهم ومؤمنهم يشتركون فيما يفتخر به المفتخر، لأنّ التكبر والافتخار إن كان بسبب الغنى فالكافر قد يكون غنياً والمؤمن فقيراً وبالعكس.
وإن كان بسبب النسب فالكافر قد يكون نسيباً والمؤمن مولى وعبداً أسود وبالعكس، فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون ومتقاربون ولا يؤثر شيء من ذلك مع عدم التقوى. كما قال تعالى :﴿إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ فقوله تعالى :﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى﴾ أي آدم وحوّاء فأنتم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بعض لكونهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة.
قال ابن عباس :"نزلت في ثابت بن قيس. وقوله للرجل الذي لم يفسح له ابن فلانة فقال النبيّ ﷺ من الذاكر فلانة. قال ثابت : أنا يا رسول الله فقال : انظر في وجوه القوم فنظر فقال : ما رأيت يا ثابت قال : رأيت أبيض وأحمر وأسود. قال : فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى" فنزلت هذه الآية ونزل في الذي لم يفسح له ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس﴾ (المجادلة : ١١)
الآية وقال قتادة :"لما كان فتح مكة أمر رسول الله ﷺ بلالاً حتى علا على ظهر الكعبة فأذن فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام : أما وجد محمد أغبر من هذا الغراب الأسود مؤذناً. وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئاً يغيره وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبره به رب العالمين رب السموات فأتى جبريل رسول الله ﷺ فأخبره بما قالوه فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله تعالى في هذه الآية" وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٨
تنبيه : الحكمة في اختيار النسب مع أنّ غيره من جملة أسباب التفاخر ولم يذكر الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة لأنّ النسب أعلاها لأنّ المال قد يحصل للفقير فيبطل افختار الغني المفتخر به عليه والسمن والحسن وغير ذلك لا يدوم. والنسب ثابت مستمر غير مقدوراً التحصيل لمن ليس له ذلك فاختاره الله تعالى للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بطريق الأولى فإن قيل : إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فما فائدة قوله تعالى :﴿إنا خلقناكم﴾ أجيب : بأنّ فائدته أنّ كل شيء يترجح على غيره فأمّا أن يترجح بأمر فيه يلحقه ويرتب عليه بعد وجوده.
وأمّا أن يترجح عليه بأمر قبله فالذي بعده كالحسن والقوّة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء.
وأمّا الذي قبله فأما راجع إلى أصله الذي وجد فيه أو إلى الفاعل الذي أوجده فالأول كقولك هذا من نحاس وهذا من فضة، والثاني كقولك هذا عمل فلان وهذا عمل فلان. فقال تعالى : لا ترجيح بالنسبة إلى فاعلكم لأنكم كلكم خلق الله تعالى فإن كان عناكم تفاوت فهو بأمور تحصل لكم بعد وجودكم وأشرفها التقوى. ولما كان تفصيلهم إلى فرق كل منها يعرف به أمراً باهراً عبر فيه بنون العظمة فقال تعالى :﴿وجعلناكم﴾ أي بعظمتنا ﴿شعوباً﴾ جمع شعب بفتح الشين وهو أعلى طبقات الإنسان مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج ﴿وقبائل﴾ أي : تحت الشعوب وذلك أنّ
٥٩


الصفحة التالية
Icon