ولما كان هذا أمراً صادقاً أشار تعالى إلى أنه يكفي هذه الأمّة المرحومة التأكيد بمرّة واحدة، فقال سبحانه مردّداً الأمر بين تأكيد الردع تالياً بالأداة الصالحة له، ولأن يكون بمعنى حقاً كما يقوله أئمة القراءة.
﴿كلا﴾ أي : ليشتدّ ارتداعكم عن التكاثر، فإنه أساس كل بلاء فإنكم ﴿لو تعلمون﴾ أي : أيها الكافرون ﴿علم اليقين﴾ أي : لو يقع لكم علم على وجه اليقين مرّة من الدهر لعلمتم ما بين أيديكم فلم يلهكم التكاثر ولضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون فحذف الجواب أخوف ليذهب الوهم معه كل مذهب ولا يجوز أن يكون.
﴿لترون الجحيم﴾ جوابها الآن هذا مثبت، وجواب لو يكون منفياً ولأنه تعالى عطف عليه، ثم لتسألن وهو مستقبل لا بد من وقوعه وحذف جواب لو كثير. قال الأخفش : التقدير لو تعلمون علم اليقين لالهاكم بل هو جواب قسم محذوف أكد به الوعيد، وأوضح به ما أنذرهم منه بعد إبهامه تفخيماً.
٦٧٧
وقوله تعالى :﴿ثم لترونها﴾ تكرير للتأكيد، والأولى إذا رأتهم من مكان بعيد، والثانية إذا وردوها والمراد بالأولى المعرفة والثانية الإبصار. ﴿عين اليقين﴾ أي : الرؤية التي هي نفس اليقين، فإن علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين. قال الرازي : واليقين مركب الإخلاص في هذا الطريق، وهو غاية درجات العامة وأوّل خطرة الخاصة. قال ﷺ "خير ما ألقي في القلب اليقين" وعلمه قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف على ما قام بالحق. وقال قتادة : اليقين هنا الموت، وعنه أيضاً. البعث، أي : لو تعلمون علم الموت، أو البعث فعبر عنه الموت باليقين، والعلم من أشدّ البواعث على العمل. وقيل : لو تعلمون اليوم في الدنيا علم اليقين بما أمامكم مما وصفت..
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٧٥
لترونّ الجحيم﴾
بعيون قلوبكم، فإنّ علم اليقين يريك الجحيم بعين فؤادك. وقرأ لترونَ ابن عامر والكسائي بضم التاء، والباقون بالفتح.
﴿ثم لتسئلنّ﴾ حذف منه نون الرفع لتوالي النونات، والواو لالتقاء الساكنين ﴿يومئذ﴾ أي : يوم رؤيتها ﴿عن النعيم﴾ وهو ما يلتذ به في الدنيا من الصحة والفراغ والأمن والمطعم والمشرب وغير ذلك، والمراد بذلك ما يشغله عن الطاعة للقرينة والنصوص الكثيرة كقوله تعالى :﴿قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده﴾ (الأعراف : ٣٢)
وقوله تعالى :﴿كلوا من الطيبات﴾ (المؤمنون : ٥١)
وقال الحسن : لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار، لأنّ أبا بكر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال : يا رسول الله، أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم من خبز وشعير ولحم وبسر وماء عذب، أيكون من النعيم الذي يسأل عنه، فقال ﷺ "إنما ذلك للكفار ثم قرأ ﷺ ﴿وهل نجازي إلا الكفور﴾ (سبأ : ١٧)
" لأنّ ظاهر الآية يدل على ذلك لأنّ الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله تعالى، والاشتغال بشكره فالله تعالى يسألهم عنها يوم القيامة حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه لسعادتهم كان من أعظم الأسباب لشقاوتهم. وقيل : السؤال عام في حق المؤمن والكافر لقوله ﷺ "أوّل ما يسأل العبد يوم القيامة عن النعيم فيقال له : ألم نصحح جسمك، ألم نروك من الماء البارد ؟
". وقيل : الزائد على ما لا بدّ منه، وقيل : غير ذلك. قال الرازي : والأولى على جميع النعم لأنّ الألف واللام تفيد الاستغراق وليس صرف اللفظ على البعض أولى من صرفه إلى الباقي، فيسأل عنها هل شكرها أم كفرها.
وإذا قيل : إنّ هذا السؤال للكافر، فقيل : هو في موقف الحساب، وقيل : بعد دخول النار يقال لهم : إنما حل بكم هذا العذاب لاشتغالكم في الدنيا بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم من هذه النار، ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ ﷺ "من قرأ ألهاكم التكاثر لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية" حديث موضوع إلا آخره، فرواه الحاكم بلفظ "ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم قالوا : ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية ؟
قال : أو ما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر".
٦٧٨
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٧٥


الصفحة التالية
Icon