سبب عنه قوله تعالى آمراً بما هو جامع لمجامع الشكر :
﴿فصلِّ﴾ أي : بقطع العلائق عن الخلائق بالوقوف بين يدي الله تعالى في حضرة المراقبة شكراً لإحسان المنعم، خلافاً للساهي عنها والمرائي فيها. ﴿لربك﴾ أي : المحسن إليك بأنواع النعم مراغماً من شئت فلا سبيل لأحد عليك ﴿وأنحر﴾ أي : أنفق له الكوثر من المال على المحاويج خلافاً لمن يدعهم ويمنعهم الماعون، والنحر أفضل نفقات العرب لأنّ الجزور الواحد يغني مائة مسكين، وإذا أطلق العرب المال انصرف إلى الإبل.
وقال محمد بن كعب : إن ناساً كانوا يصلون لغير الله تعالى، وينحرون لغير الله فأمر الله تعالى نبيه محمداً ﷺ أن يصلي وينحر لله عز وجل. وقال عكرمة وعطاء وقتادة :﴿فصل لربك﴾ صلاة العيد يوم النحر، وانحر نسكك، واقتصر على هذا الجلال المحلي وقال سعيد بن جبير ومجاهد : فصل الصلاة المفروضة بجمع، أي : مزدلفة، وانحر البدن بمنى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر. وعن علي : أنّ معناه أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره. وقال الكلبيّ : استقبل القبلة بنحرك. وعن عطاء أمره أن يستوي بين السجدتين جالساً حتى يبدو نحره.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٩٥
إنّ شانئك﴾
أي : مبغضك والشانىء المبغض، يقال : شنأه يشنؤه، أي : أبغضه ﴿هو الأبتر﴾ أي : المنقطع عن كل خير، وأما أنت فقد أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك فمعطي ذلك كله هو الله رب العالمين فاجتمعت لك العطيتان السنيتان إصابة أشرف عطاء وأوفره من أكرم معط وأعظم منعم، أو المنقطع العقب لا أنت لأنّ كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أعقابك وأولادك وذكرك مرفوع على المنابر والمنائر وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر يبدأ بذكر الله تعالى ويثني بذكرك ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف فمثلك لا يقال له أبتر إنما الأبتر هو شانئك المسيء في الدنيا والآخرة وقال الرازي : هذه السورة كالمقابلة للتي قبلها فإنه ذكر في الأولى البخل وترك الصلاة والرياء ومنع الماعون وذكر ههنا في مقابلة البخل ﴿إنا أعطيناك الكوثر﴾ وفي مقابلة الصلاة ﴿فصلّ﴾ أي : دم على الصلاة وفي مقابلة الرياء ﴿لربك﴾ أي : لرضاه خالصاً، وفي مقابلة منع الماعون ﴿وانحر﴾ أي : تصدّق بلحم الأضاحي ثم ختم السورة بقوله تعالى :﴿إنّ شانئك هو الأبتر﴾ أي : أنّ المشاقق الذي اتى بتلك الأفعال القبيحة سيموت ولا يبقى له أثر وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل وفي الآخرة الثواب الجزيل.
واختلف المفسرون في الشانىء فقيل : هو العاص بن وائل وكانت العرب تسمي من كان له بنون وبنات ثم مات البنون وبقي البنات أبتر فقيل : إنّ العاص وقف مع النبيّ ﷺ يكلمه فقال له جمع من صناديد قريش : مع من كنت واقفاً مع ذلك الأبتر، وكان قد توفيّ قبل ذلك عبد الله ابن النبيّ ﷺ فنزلت الآية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان أهل الجاهلية إذا مات ابن الرجل قالوا أبتر فلان فلما توفي عبد الله ابن النبيّ ﷺ خرج أبو جهل على أصحابه فقال : بتر محمد فنزلت. وقال السديّ : إنّ قريشاً كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده بتر فلان فلما مات لرسول الله ﷺ القاسم بمكة وإبراهيم بالمدينة قالوا بتر محمد فليس له من يقوم بأمره من بعده فنزلت.
٦٩٧
وقيل : لما أوحى الله تعالى إلى النبيّ ﷺ دعا قريش إلى الإيمان قالوا : أبتر منا محمد، أي : خالفنا وانقطع عنا فنزلت.
تنبيه : قال أهل العلم قد احتوت هذه السورة على قصرها على معان بليغة وأساليب بديعة منها دلالة استهلال السورة على أنه تعالى أعطاه كثيراً من كثير ومنها إسناد الفعل إلى المتكلم المعظم نفسه، ومنها إيراده بصيغة الماضي تحقيقاً لوقوعه كما في قوله تعالى :﴿أتى أمر الله﴾ (النحل : ١)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٩٥
ومنها : تأكيد الجملة بأن. ومنها بناء الفعل على الاسم ليفيد الإسناد مرّتين.
ومنها : الإتيان بصيغة تدل على مبالغة الكثرة.
ومنها : حذف الموصوف بالكوثر لأنّ في حذفه من فرط الشياع والإبهام ما ليس في إثباته، ومنها تعريفه بأل الجنسية الدالة على الاستغراق.
ومنها : فاء التعقيب الدالة على السبب فإنّ الإنعام سبب للشكر والعبادة، ومنها التعريض بمن كانت صلاته ونحره لغير الله تعالى، ومنها أنّ الأمر بالصلاة إشارة إلى الأعمال الدينية التي الصلاة قوامها وأفضلها والأمر بالنحر إشارة إلى الأعمال البدينة التي النحر أسناها، ومنها حذف متعلق انحر إذ التقدير فصل لربك وانحر له، ومنها مراعاة السجع فإنه من صناعة البديع العاري عن التكلف، ومنها قوله تعالى :﴿لربك﴾ في الإتيان بهذه الصفة دون سائر صفاته الحسنى دلالة على أنه المربي له والمصلح بنعمه، فلا يلتمس كل خير إلا منهن ومنها الالتفات من ضمير المتكلم إلى الغائب في قوله تعالى :﴿لربك﴾ ومنها الأمر بترك الاهتمام بشانئه للاستئناف، وجعله خاتمة للإعراض عن الشانئ، ولم يسمه ليشمل كل من اتصف بهذه الصفة القبيحة، ولو كان المراد شخصاً معيناً لعينه الله تعالى.
ومنها : التنبيه بذكر هذه الصفة القبيحة على أنه لم يتصف إلا بمجرّد قيام الصفة به من غير أن تؤثر فيمن يشنؤه شيئاً البتة، لأنّ من يشنأ شخصاً قد يؤثر شنؤه شيئاً.
ومنها : تأكيد الجملة بأن المؤذنة بتأكيد الخبر، ولذلك يتلقى بها القسم وتقدير القسم يصلح هنا. ومنها الإتيان بضمير الفصل المؤذن بالاختصاص والتأكيد إن جعلنا فصلاً، وإن جعلناه مبتدأ فكذلك يفيد التأكيد ؛ إذ يصير الإسناد مرّتين.
ومنها : تعريف الأبتر بأل المؤذنة بالخصوصية بهذه الصفة كأنه قيل : الكامل في هذه الصفة. ومنها إقباله تعالى على رسوله ﷺ بالخطاب من أوّل السورة إلى آخرها. وقول البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ عن النبيّ ﷺ "من قرأ سورة الكوثر سقاه الله من كل نهر في الجنة، ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قرّبه العباد في يوم النحر، أو يقرّبونه" حديث موضوع.
٦٩٨
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٩٥


الصفحة التالية
Icon