ثالثها : أنه تعالى أمره بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقاً، واشتغاله بذلك يمنعه من الاشتغال بأمر الأمة فكان هذا كالتنبيه على أنّ أمر التبليغ قد تم وكمل، وذلك يقتضي انقضاء
٧٠٥
الأجل إذ لو بقي ﷺ بعد ذلك لكان كالمعزول من الرسالة وذلك غير جائز وعن ابن عباس : أن عمر كان يدنيه ويأذن له مع أهل بدر، فقال عبد الرحمن : أتأذن لهذا الفتى معنا وفي أبنائنا من هو مثله ؟
فقال : إنه من قد علمتم. قال ابن عباس : فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول الله تعالى :﴿إذا جاء نصر الله والفتح﴾ ولا أراه سألهم إلا من أجلي، فقال بعضهم : أمر الله تعالى نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه فقلت ليس كذلك ولكن نعيت إليه نفسه، فقال عمر : ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم، ثم قال : كيف تلوموني عليه بعد ما ترون. وروي أنه ﷺ "دعا فاطمة رضي الله عنها فقال : يابنتاه إني نعيت إلى نفسي فبكت، فقال : لا تبكي فإنك أوّل أهلي لحوقاً بي" وعن عائشة "كان ﷺ يكثر قبل موته أن يقول :"سبحانك اللهمّ وبحمدك اشتغفرك وأتوب إليك" وعنها أيضاً "ما صلى رسول الله ﷺ صلاة بعد أن نزلت ﴿إذا جاء نصر الله والفتح﴾ إلا يقول فيها : سبحانك اللهمّ وبحمدك اللهمّ اغفر لي". وقالت أم سلمة رضي الله عنها :"كان النبيّ ﷺ آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال :"سبحان الله وبحمده استغفر الله وأتوب إليه. قال : فإني أمرتُ بها ثم قرأ ﴿إذا جاء نصر الله والفتح﴾ إلا آخرها". وقيل : استغفره هضماً لنفسك واستصغاراً لعملك واستدراكاً لما فرط منك بالالتفات على غيره وعنه عليه الصلاة والسلام :"إني استغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة" وقيل : استغفر لأمّتك وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار على طريق النزول من الخالق إلى الخلق، كما قيل : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله.
ولما أمره الله تعالى بالتسبيح والاستغفار أرشده إلى التوبة بقوله تعالى :﴿إنه﴾، أي : المحسن إليك بالنصر والفتح وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر ﴿كان﴾، أي : ولم يزل ﴿تواباً﴾، أي : رجاعاً بمن ذهب به الشيطان من أهل رحمته، فهو الذي رجع بأنصارك عما كانوا عليه من الاجتماع على الكفر والاختلاف والعداوات، فأيدك الله تعالى بدخولهم في الدين شيئاً فشيئاً إلى أن دخلت مكة بعشرة آلاف، وهو أيضاً يرجع بك إلى الحالة التي يزداد بهاظهور رفعتك في الرفيق الأعلى. قال الله تعالى :﴿وللآخرة خير لك من الأولى﴾ (الضحى : ٤)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٠٢
فتفوز بتلك السعادات العالية. وعن ابن مسعود : أنّ هذه السورة تسمى سورة التوديع. قال قتادة ومقاتل : عاش النبيّ ﷺ بعد نزول هذه السورة سنتين وهذا بناء على أنها نزلت قبل فتح مكة، وهو قول الأكثر فإنّ الفتح كان في سنة ثمان، وأمّا من قال : عاش دون ذلك كما مر فبناء على أنها نزلت في حجة الوداع كما مرّ أيضاً.
تنبيه : في الآية سؤالات أحدها أنّ قوله تعالى :﴿كان تواباً﴾ يدل على الماضي وحاجتنا إلى
٧٠٦
قبوله في المستقبل. ثانيها : هلا قال غفاراً كما قال في سورة نوح عليه السلام. ثالثها : أنه قال تعالى :﴿نصر الله﴾ وقال تعالى :﴿في دين الله﴾ وقال تعالى ﴿بحمد ربك﴾ ولم يقل بحمد الله ؟
أجيب : عن الأوّل بوجوه :
أحدها : أنّ هذا أبلغ كأنه يقول إني تبت على من هو أقبح فعلاً منكم كاليهود، فإنهم بعد ظهور المعجزات العظيمة كفلق البحر ونتق الجبل ونزول المنّ والسلوى عصوا ربهم وأتوا بالقبائح، ولما تابوا قبلت توبتهم فإذا كنت قابلاً لتوبة أولئك وهم دونكم أفلا أقبل توبتكم وأنتم خير أمّة أخرجت للناس.
ثانيها : إني شرعت في توبة العصاة، والشروع ملزم على قول النعمان فكيف في كرم الرحمن.
ثالثها : كنت تواباً قبل أمركم بالاستغفار، أفلا أقبل وقد أمرتكم.
رابعها : كأنه أشار إلى تخفيف جنايتهم، أي : لستم أوّل من جنى وتاب، والمعصية إذا عمت خفت.
خامسها : كأنه نظير ما يقال لقد أحسن الله إليك فيما مضى، كذلك يحسن إليك فيما بقي. وأجيب : عن الثاني بوجهين : أحدهما لعله خص هذه الأمة بزيادة الشرف لأنه لا يقال في صفات العبد : غفار، ويقال : تواب إذا كان آتياً بالتوبة فيقول تعالى : كنت لي سمياً من أوّل الأمر أنت مؤمن وأنا مؤمن، وإن كان المعنى : مختلفاً فتب حتى تصير سمياً في آخر الأمر، وأنت تواب وأنا تواب ثم التوّاب في حق الله تعالى إنه يقبل التوبة كثيراً. فيجب على العبد أن يكون إتيانه بالتوبة كثيراً. وثانيهما : أنه تعالى إنما قال تواباً لأنّ القائل قد يقول استغفر الله وليس بتائب كقوله عليه الصلاة والسلام :"المستغفر بلسانه المصر بقلبه كالمستهزئ بربه".
فإن قيل : قد يقول أتوب وليس بتائب ؟
أجيب : بأن ذا يكون كاذباً لأنّ التوبة اسم للرجوع والندم، بخلاف الاستغفار فإنه لا يكون كاذباً فيه فصار تقدير الكلام : واستغفره بالتوبة، وفيه تنبيه على أنّ خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار فكذا خواتيم الأعمار. وأجيب عن الثالث : بأنه تعالى راعى العدل فذكر اسم الذات مرّتين، وذكر اسم الفعل مرّتين أحدهما الرب، والثاني التوّاب. ولما كانت التربية تحصل أولاّ والتوبة آخراً، لا جرم ذكر اسم الرب أولاً واسم التوبة آخراً فنسأل الله تعالى من فضله وكرمة أن يمنّ علينا بتوبة نصوح لا ننكث بعدها أبداً، فإنه كريم رحيم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٠٢
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ ﷺ "من قرأ سورة ﴿إذا نصر الله﴾ "أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد يوم فتح مكة" حديث موضوع.
٧٠٧
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٠٢