وقال الزمخشري : فإن قلت : لما كناه والكنية تكرمة، ثم ذكر ثلاثة أجوبة إمّا لشهرته بكنيته، وإمّا لقبح اسمه كما تقدّم، وإمّا لأنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب وافقت حالته كنيته اه. وهذا يقتضي أنّ الكنية أشرف من اللقب لا أنقص وهو عكس قول تقدّم. وقرأ ابن كثير بإسكان الهاء، والباقون بفتحها وهما لغتان بمعنى نحو : النهر والنهر
وقوله تعالى :﴿وتب﴾ خبر كما يقال : أهلكه الله وقد هلك، فالأول : أخرج مخرج الدعاء عليه، والثاني : أخرج مخرج الخبر فحقق به ما أريد من الإسناد إلى اليدين من الكناية عن الهلاك الذي لا بقاء بعده، وقيل : المراد ماله وملكه كما يقال فلان قليل ذات اليد يعنون به المال، وبالثاني نفسه.
ولما دعا ﷺ أقربيه إلى الله تعالى وخوّفهم، قال أبو لهب : إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فإني أفتدي نفسي بمالي وولدي فأنزل الله تعالى :
﴿ما أغنى عنه﴾ أي : عن أبي لهب ﴿ماله﴾، أي : الكثير الذي جرت العادة أنه منج من الهلاك، فإنه كان صاحب مواش كثيرة. ﴿وما كسب﴾، أي : من الولد والأصحاب والعز بعشيرته التي كان يؤذي بها النبيّ ﷺ وكان ابنه عتبة شديد الأذى
٧٠٩
للنبيّ ﷺ فقال النبيّ ﷺ "اللهمّ سلط عليه كلباً من كلابك فكان أبو لهب يعرف أن هذه الدعوة، لا بدّ أن تدركه فسافر إلى الشأم فأوصى به الرفاق لينجوه من هذه الدعوة فكانوا يحدقون به إذا نام ليكون وسطهم والحمول محيطة به وهم محيطون بها، والركاب محيطة بهم، فلم ينفعهم بل جاء الأسد فتشمم الناس حتى وصل إليه فاقتلع رأسه" وإنما كان الولد من الكسب لقوله ﷺ "أطيب ما يأكل أحدكم من كسبه، وإنّ ولده من كسبه".
تنبيه : ما في ﴿ما أغنى﴾ يجوز فيها النفي والاستفهام فعلى الاستفهام، تكون منصوبة المحل بما بعدها التقدير : أي شيء أغنى المال وقدم لكونه له صدر الكلام، ويجوز في ما في قوله تعالى :﴿وما كسب﴾ أن تكون بمعنى الذي فالعائد محذوف، وأن تكون مصدرية، أي : وكسبه وأغنى بمعنى يغني. ثم أوعده سبحانه بالنار فقال تعالى :
﴿سيصلى﴾ أي : عن قريب بوعد لا خلف فيه ﴿ناراً﴾ يندس فيها وتنعطف عليه وتحيط به ﴿ذات لهب﴾، أي : لا تسكن ولا تخمد أيداً لأنّ ذلك مدلول الصحبة المعبر عنها بذات وذلك بعد موته.
ولما أخبر تعالى عنه بكمال التباب الذي هو نهاية الخسار زاده تحقيراً بذكر من يصونها بأزرى صورة وأشنعها بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٠٨
وامرأته﴾ وهو عطف على ضمير يصلى سوغه الفصل بالمفعول وصفته، وهي أمّ جميل وهي أخت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، مثل زوجها في التباب والصليّ من غير أن يغني عنها شيء من مال ولا حسب ولا نسب، وعدل عن ذكرها لأنّ صفتها القباحة وهي ضدّ كنيتها. قال البقاعي : ومن هنا يؤخذ كراهة التلقيب بناصر الدين ونحوها لمن ليس متصفاً بما دل عليه لقبه. وقوله تعالى :﴿حمالة الحطب﴾ فيه وجهان :
أحدهما : هو حقيقة. قال قتادة : وكانت تعير النبيّ ﷺ بالفقر، ثم كانت مع كثرة مالها تحمل الحطب على ظهرها لشدّة بخلها فعيرت بالبخل، وقال ابن زيد : كانت تحمل العضاه والشوك تلقيه في الليل في طريق النبيّ ﷺ وأصحابه فكان النبيّ ﷺ يطؤه كما يطأ الحرير، وقال برّة الهمداني : كانت أمّ جميل تأتي في كل يوم بإبالة من الحسك فتطرحها في طريق المسلمين فبينما هي ذات ليلة حاملة حزمة عييت فقعدت على حجر تستريح فجذبها الملك من خلفها فأهلكها.
الوجه الثاني : أنّ ذلك مجاز عن المشي بالتسمية ورمي الفتن بين الناس، ويقال للمشاء بين الناس بالنمائم المفسد بين الناس يحمل الحطب منهم، أي : يوقد بينهم ويثير الشر قال الشاعر :
*من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ** ولم تمش بين الناس بالحطب الرطب*
٧١٠
جعله رطباً ليدلّ على التدخين الذي هو زيادة في الشرّ. وقال سعيد بن جبير : حمالة الخطايا والذنوب من قولهم : فلان يحتطب على ظهره قال تعالى :﴿يحملون أوزارهم على ظهورهم﴾ (الأنعام : ٣١)
وقرأ عاصم بنصب التاء من حمالة على الشتم، قال الزمخشري : وأنا أستحب هذه القراءة، وقد توسل إلى رسول الله ﷺ من أحب شتم أمّ جميل اه. والباقون برفعها على أنها صفة امرأته فإنها مرفوعة باتفاق إما بالعطف على الضمير في سيصلى كما مرّ، ويكون قوله تعالى :
﴿في جيدها حبل﴾ حالاً من امرأته، أو على الابتداء ففي جيدها حبل هو الخبر وحبل فاعل به، ويجوز أن يكون في جيدها خبراً مقدّماً وحبل مبتدأ مؤخراً، والجملة حالية أو خبر ثان. والجيد العنق ويجمع على أجياد.