وقال الرازي : في الآية إشارة إلى بيان حال المؤلفة إذا أسلموا ويكون إيمانهم ضعيفاً فيقال لهم : لم تؤمنوا لأنّ الإيمان إيقان وذلك بعد لم يدخل في قلوبهم وسيدخل بإطلاعهم على محاسن الإسلام انتهى. بل الإيمان دخل في قلوبهم ولكن لم يتألفوا بأهل الإسلام ؟
تنبيه : التعبير بلما يفهم أنهم آمنوا بعد ذلك ويجوز أن يكون المراد بهذا النفي نفي التمكن في القلب لا نفي مطلق الدخول بدليل إنما المؤمنون دون إنما الذين آمنوا ﴿وإن تطيعوا الله﴾ أي : الملك الذي من خالفه لم يأمن عقوبته ﴿ورسوله﴾ أي : الذي طاعته من طاعته على ما أنتم عليه من الأمر الظاهر فتؤمن قلوبكم ﴿لا يلتكم﴾ أي : لا ينقصكم ﴿من أعمالكم شيئاً﴾ بل يعطيكم ما يليق به من الجزاء لأنّ من حمل إلى ملك فاكهة طيبة قدر ثمنها في السوق ردهم فأعطاه الملك درهماً انتسب الملك إلى البخل فهو يعطي ما تتوقعون بأعمالكم وزيادة من غير نقص فلا حاجة إلى إخباركم عن إيمانكم بغير ما يدلّ عليه من الأقوال والأفعال.
وقرأ الدوري : عن أبي عمرو بعد الياء التحتية بهمزة ساكنة وأبدلها السوسي ألفاً والباقون بغير همز ولا ألف. ولما كان الإنسان مبنياً على النقص وإن اجتهد غاية اجتهاده قال الله تعالى :﴿إن الله﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿غفور﴾ أي : ستور للهفوات والزلات لمن تاب وصحت نيته ولغيره إن شاء فلا عتاب ولا عقاب ﴿رحيم﴾ أي : يزيد على الستر عظيم الإكرام ثم بين تعالى لهم حقيقة الإيمان بقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٨
﴿إنما المؤمنون﴾ أي العريقون في الإيمان الذي هو حياة القلوب. قال القشيري : والقلوب لا تحيا إلا بعد ذبح النفوس والنفوس لا تموت ولكنها تعيش ﴿الذين آمنوا﴾ أي : صدّقوا معترفين ﴿بالله﴾ معتقدين بجميع ماله من صفات الكمال ﴿ورسوله﴾ شاهدين برسالته وهذا الإثبات هنا يدل على أن المنفي فيما قبل الكمال المطلق وإلا لقال تعالى إنما الذين آمنوا ﴿ثم لم يرتابوا﴾ أي : لم يشكوا في دينهم وأيقنوا بأنّ الإيمان إيقان.
تنبيه : ثم للتراخي في الحكاية كأنه يقول آمنوا ثم أقول شيئاً آخر لم يرتابوا ويحتمل أن تكون للتراخي في الفعل أي آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا فيما نقل النبيّ ﷺ من الحشر والنشر
٦٢
﴿وجاهدوا﴾ أي : أوقعوا الجهاد بكل ما ينبغي أن تجهد النفوس فيه تصديقاً لما ادعوه بألسنتهم من الإيمان ﴿بأموالهم﴾ وذلك هو النية وقوله تعالى :﴿وأنفسهم﴾ أعمّ من النية وغيرها وذلك هو الشجاعة قدم الأموال لقلتها عند العرب ﴿في سبيل الله﴾ أي : طريق الملك الأعظم بقتال الكفار وغيره من سائر العبادات المحتاجة إلى المال والنفس لا الذين يتخلفون ويقولون شغلتنا أموالنا وأهلونا. قال القشيري : جعل الله تعالى الإيمان مشروطاً بخصال ذكرها وذكر بلفظ إنما وهي للتحقيق يقتضي الطرد والعكس فمن أفرد الإيمان عن شرائطه التي جعلها له فمردود عليه قوله :﴿أولئك﴾ أي : العالو الرتبة ﴿هم الصادقون﴾ أي : في قولهم وفعلهم أنهم مؤمنون. ولما نزل هاتان الآيتان أتت الأعراب رسول الله ﷺ يحلفون بالله أنهم مؤمنون صادقون وعلم الله منهم غير ذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
﴿قل﴾ أي : لهؤلاء الأعراب مجهلاً لهم ومبكتاً ﴿أتعلمون الله﴾ أي : أتخبرون أخباراً عظيماً الملك الأعظم المحيط قدرة وعلماً ﴿بدينكم﴾ أي بقولكم آمنا ﴿والله﴾ أي : والحال أن الملك المحيط بكل شيء ﴿يعلم ما في السموات﴾ كلها على عظمتها وكثرة ما فيها ﴿وما في الأرض﴾ كذلك ﴿والله﴾ أي : الذي له الإحاطة الكاملة ﴿بكل شيء﴾ أي مما ذكر ومما لم يذكر ﴿عليم﴾ أي : لا تخفي عليه خافية وهو تجهيل لهم وتوبيخ
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٢
يمنون عليك﴾ أي : يذكرون ذكر من اصطنع صنيعة وأسدى إليك نعمة ﴿أن أسلموا﴾ أي : من غير قتال بخلاف غيرهم ممن أسلم بعد قتال منهم ولما كان المنّ هو القطع من العطاء الذي لا يراد عليه جزاء قال تعالى لنبيه ﷺ ﴿قل﴾ أي : في جواب قولهم هذا ﴿لا تمنوا عليّ إسلامكم﴾ لو فرض أنكم كنتم متدينين بدين الإسلام الذي هو انقياد الظاهر مع اذعان الباطن أي لا تذكروا الامتنان أصلاً لأنّ الإسلام لا يطلب جزاؤه إلا من الله تعالى فلا ينبغي عدّه صنيعة على أحد فإنّ ذلك يفسده ﴿بل الله﴾ أي : الملك الأعظم الذي له المنة على كل موجود ولا منة عليه بوجه ﴿يمن عليكم﴾ أي : بذكر أنه أسدى إليكم نعمة ﴿أن﴾ أي : بأن ﴿هداكم للإيمان﴾ أي : فهو المانّ عليكم لا أنتم عليه وعلي.
فإن قيل : كيف منّ عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه تبين أنهم لم يؤمنوا. أجيب بأوجه : أحدها : أنه تعالى لم يقل بل الله يمنّ عليكم أن رزقكم الإيمان بل قال أن هداكم للإيمان ثانيها : أنه تعالى منّ عليهم بما زعموا فكأنه تعالى قال أنتم قلتم آمنا فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار. فقال تعالى ﴿هداكم﴾ في زعمكم
ولهذا قال تعالى :﴿إن كنتم صادقين﴾ أي : في قولكم آمنا فإنه على تقدير الصدق إنما هو بتوفيق الله تعالى وهو الذي خلق لكم قدرة الطاعة فهو الفاعل في الحقيقة فله المنة عليكم. قال القشيري : من لاحظ شيئاً من أحواله فإن رآها من نفسه كان مشركاً وإن رآها لنفسه كان مكراً فكيف يمنّ العبد بما هو شرك أو مكر والذي يجب عليه قبول المنة كيف يرى لنفسه على غيره منة هذا لعمري فضيحة والمنة تكدّر الصنيعة إذا كانت من المخلوقين وبالمنة تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله تعالى.
﴿إن الله﴾ أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿يعلم غيب السموات﴾ أي : ما غاب فيها كلها ﴿والأرض﴾ كذلك ولما أريد التعميم من غير تقييد بالخافقين أظهر ولم يضمر قوله تعالى :
٦٣
﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة بذلك وبغيره مما لا تعلمون ﴿بصير﴾ أي : عالم أتم العلم ﴿بما تعملون﴾ أي : من ظاهر إسلامكم في الماضي والحاضر والآتي سواء أكان ظاهراً أم باطناً سواء أكان قد حدث فصار بحيث تعلمونه أنتم أو كان مفروزاً في جبلاتكم وهو خفيّ عنكم. وقرأ ابن كثير : بالياء التحتية على الغيبة نظراً لقوله تعالى :﴿يمنون﴾ وما بعده والباقون بالفوقية على الخطاب نظراً إلى قوله تعالى :﴿لا تمنوا عليّ إسلامكم﴾ إلى آخره وفي هذه الآية إشارة إلى أنه يبصر أعمال جوارحكم الظاهرة والباطنة لا يخفى عليه شيء وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال :"من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه" حديث موضوع.
٦٤
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٢