﴿كانوا﴾ أي لما عندهم من الإجلال له والحب فيه بحيث كأنهم مطبوعين فيه ﴿قليلاً من الليل﴾ الذي هو وقت الراحات وقضاء الشهوات ﴿ما يهجعون﴾ أي يفعلون الهجوع وهو النوع الخفيف القليل بالليل فما ظنك بما فوقه فما مزيدة ويهجعون خبر كان وقليلاً ظرف أي : ينامون في زمن يسير من الليل ويصلون أكثره، وقال ابن عباس رضي الله عنه كانوا قلّ ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئاً إما من أوّلها أو من وسطها، وعن أنس بن مالك كانوا يصلون من المغرب إلى العشاء، وقال محمد بن علي : كانوا لا ينامون حتى يصلون العتمة، وقال مطرف بن عبد الله : قلّ ليلة أتت عليهم هجوعاً كلها وقال مجاهد : كانوا لا ينامون كل الليل.
ووقف بعضهم على قليلاً ليؤاخي بها قوله تعالى ﴿وقليل ما هم﴾ (ص : ٢٤)
و﴿قليل من عبادي الشكور﴾ (سبأ : ١٣)
ويبتدئ من الليل ما يهجعون أي ما يهجعون من الليل والمعنى : كانوا من الناس قليلاً ثم ابتدأ فقال : ما يهجعون من الليل وجعله جحداً أي لا ينامون بالليل البتة بل يقومون للصلاة والعبادة وهو قول الضحاك ومقاتل، وقيل : إنّ ما بمعنى الذي وعائدها محذوف تقديره : كانوا قليلاً من الليل الوقت الذي يهجعونه وهذا فيه تكلف ولما كان المحسن لا يرى نفسه إلا مقصراً.
٨٧
قال تعالى دالاً على ذلك وعلى أن تهجدهم متصل بآخر الليل.
﴿وبالأسحار﴾ قال ابن زيد : السحر السدس الأخير من الليل ﴿هم﴾ أي : دائماً بظواهرهم وبواطنهم ﴿يستغفرون﴾ أي : يعدون مع هذا الاجتهاد أنفسهم مذنبين ويسألون غفران ذنوبهم لوفور علمهم بالله تعالى، وأنهم لا يقدرون على أن يقدروه حق قدره وإن اجتهدوا لقول سيد الخلق محمد ﷺ "لا أحصي ثناء عليك" وإبراز الضمير دلّ على أنّ غيرهم لو فعل هذا ليلة لا عجب بنفسه ورأى أنه لا أحد أفضل منه، وعلى أنّ استغفارهم في الكثرة يقتضي أنهم يكونون بحيث يظنّ أنهم أحق بالتذلل من المصرّين على المعاصي، فإنّ استغفارهم ذلك على بصيرة لأنهم نظروا ماله سبحانه في الآفاق وفي أنفسهم من الآيات والحكم البالغة فأقبلوا على الاستغفار عالمين بأنه تعالى لا يقدر حق قدره.
اسم الكتاب : تفسير السراج المنير الشربيني
تنبيه : بالأسحار متعلق بيستغفرون والباء بمعنى في وقدم متعلق الخبر على المبتدأ لجواز تقديم العامل.
وقال الكلبي ومجاهد : بالأسحار يصلون وذلك أنّ صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة روى أبو هريرة أنّ رسول الله ﷺ قال :"ينزل الله إلى السماء كل ليلة حتى يبقى ثلث الليل فيقول أنا الملك أنا الملك من الذي يدعوني فأستجيب له، من الذي يسألني فأعطيه من الذي يستغفرني فأغفر له" وهذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان معروفان :
أحدهما : وهو مذهب السلف وغيرهم أنه يمّر كما جاء من غير تأويل ولا تعطيل وترك الكلام فيه وفي أمثاله مع الإيمان به وتنزيه الرب سبحانه عن صفات الأجسام.
المذهب الثاني : وهو قول جماعة من المتكلمين وغيرهم أنّ الصعود والنزول من صفات الأجسام فالله تعالى منزه عن ذلك فعلى هذا يكون معناه نزول الرحمة والألطاف الإلهية والإقبال على الداعين بالإجابة واللطف وتخصيصه بالثلث الأخير من الليل، لأنّ ذلك وقت التهجد والدعاء وغفلة أكثر الناس وعن ابن عباس أنّ النبيّ ﷺ كان إذا قام من الليل يتهجد قال : اللهمّ لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق ولقاؤك حق وقولك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدّمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت" وزاد في رواية "وما أنت أعلم به مني أنت المقدّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك" زاد النسائي "ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
٨٨
ولما ذكر تعالى معاملتهم للخالق أتبعه المعاملة للخلائق تكميلاً لحقيقة الإحسان فقال تعالى :
﴿وفي أموالهم﴾ أي كل أصنافها ﴿حق﴾ أي نصيب ثابت ﴿للسائل﴾ أي الذي ينبه على حاجته بسؤال الناس وهو المتكفف ﴿والمحروم﴾ وهو المتعفف الذي لا يجد ما يغنيه ولا يسأل الناس ولا يُفطن له ليُتصدّق عليه وهذه صفة أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم، فالمحسنون يعرفون صاحب الوصف لما لهم من ناقد البصيرة ولله تعالى بهم العناية، وقدم السائل لأنه يعرف بسؤاله أو يكون إشارة إلى كثرة العطاء فيعطي السؤال، فإذا لم يجدهم يسأل عن المحتاجين فيكون سائلاً ومسؤولاً.