ففرّوا} أي : أقبلوا والجؤوا ﴿إلى الله﴾ أي : الذي لا سمي له فضلاً عن مكافىء، وله الكمال كله فهو في غاية العلو فلا يفرّ ويسكن أحد إلى غير محتاج مثله فإن المحتاج لا غنى عنده ولا يفرّ إليه سبحانه إلا من تجرّد عن حضيض عوائقه الجسمية إلى أوج صفاته الروحانية وذلك من وعيده إلى وعده اللذين دلّ عليهما بالزوجين فتكمل السياق بالتحذير والاستعطاف بالاستدعاء فهو من باب لا ملجأ منك إلى إليك أعوذ بك منك قال القشيري : ومن صح فراره إلى الله تعالى صح قراره مع الله تعالى قال البقاعي : وهو بكمال المتابعة ليس عيناً ومن فهم منه اتحاداً بذات أو صفة فقد نابذ طريق القوم فعليه لعنة الله.
﴿إني لكم منه﴾ أي : لا من غيره ﴿نذير﴾ أي : من أن يفرّ أحد إلى غيره فإنه لا يحصل له قصد ﴿مبين﴾ أي : بين الإنذار ففرار العامّة من الجهل إلى العلم عقداً وسعياً، ومن الكسل إلى التشمير حذراً وحزماً ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاء وفرار خاصة الخاصة مما دون الحق إلى الحق استغراقاً في وحدانيته.
﴿ولا تجعلوا﴾ أي : بأهوائكم ﴿مع الله﴾ وكرر الاسم الأعظم ولم يضمر تعييناً للمراد، لأنه لم يشاركه في التسمية به أحد وتنبيهاً على ماله من صفات الكمال وتعميماً لوجوه المقاصد لئلا يظنّ لو قيل معه إنّ المراد النهي على الجعل من جهة الفرار لا من جهة غيرها ﴿إلهاً آخر﴾ ثم علل النهي مع التأكيد بطعنهم في نذارته فقال ﴿إني لكم منه﴾ أي لا من غيره، فإن غيره لا يقدر على شيء ﴿نذير﴾ أي : محذر من الهلاك الأبدي بالعقوبة التي لاخلاص معها إن فعلتم ذلك ﴿مبين﴾ أي : لا أقول شيئاً من واضح النقل إلا ودليله ظاهر.
﴿كذلك﴾ أي مثل قول قومك المختلف العظيم الشناعة البعيد من الصواب بما له من الاضطراب وقع لمن قبلهم ودلّ على هذا المقدّر بقوله تعالى مستأنفاً ﴿ما أتى الذين من قبلهم﴾ أي : كفار مكة وعمم النفي فقال تعالى :﴿من رسول﴾ أي من عند الله تعالى ﴿إلا قالوا ساحر أو مجنون﴾ أي مثل تكذيبهم لك بقولهم ذلك لأنّ الرسول يأتيهم بمخالفة مألوفاتهم التي قادتهم إليها
٩٨
أهواؤهم، والهوى هو الذي أوجب لهم هذا التناقض الظاهر سواء أكانت أو للتفصيل، لأنّ بعضهم قال : واحداً، وبعضهم قال : آخر، أو كانت للشك لأنّ الساحر يكون لبيباً فطناً آتياً بما يعجز عنه كثير من الناس، والمجنون بالضدّ من ذلك.
فإن قيل : قوله تعالى ﴿إلا قالوا﴾ يدل على أنهم كلهم قالوا ذلك والأمر ليس كذلك، لأنّ ما من رسول إلا وآمن به قوم أجيب : بأنّ ذلك ليس بعام فإنه لم يقل إلا قالوا كلهم وإنما قال إلا قالوا ولما كان كثير منهم قائلين قال تعالى إلا ﴿إلا قالوا﴾.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٧
فإن قيل : فلم لم يذكر المصدّقين كما ذكر المكذبين، وقال : إلا قال بعضهم : صدقت وبعضهم كذبت أجيب : بأنّ المقصود التسلية وهي أعلى التكذيب فكأنه تعالى قال لا تأس على تكذيب قومك فإنّ أقواماً قبلك كذبوا ورسلاً كذبوا.
ثم عجب منهم بقوله تعالى :
﴿أتواصوا به﴾ فهو استفهام للتعجب والتوبيخ والضمير في به يعود على القول المدلول عليه بقالوا، أي أتواصوا الأوّلون والآخرون بهذا القول المتضمن لساحر أو مجنون والمعنى : كيف اتفقوا على معنى واحد، كأنهم تواطؤا عليه وأوصى أوّلهم آخرهم بالتكذيب وقوله تعالى ﴿بل هم قوم﴾ أي : ذو شماخة وكبر ﴿طاغون﴾ إضراب عن أنّ التواصي جامعهم لتباعد أيامهم إلى أنّ الجامع لهم على هذا القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه، ثم إنّ الله تعالى سلى نبيه ﷺ بقوله تعالى :
﴿فتولّ﴾ أي : أعرض ﴿عنهم﴾ أي : كلف نفسك الإعراض عن الإبلاغ في إبلاغهم ولا تأسف على تخلفهم عن الإسلام ﴿فما أنت بملوم﴾ لأنك بلغتهم الرسالة وما قصرت فيما أمرت به.
قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية "حزن النبيّ ﷺ واشتدّ ذلك على أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع وإن العذاب قد حضر إذ أمر النبيّ ﷺ أن يتولى عنهم" فأنزل الله تعالى :
﴿وذكر﴾ أي : ولا تدع التذكير والموعظة ﴿فإن الذكرى تنفع المؤمنين﴾ فطابت أنفسهم، والمعنى : ليس التولي مطلقاً بل تولّ وأقبل وأعرض وادع فلا التولي يضرّك إذا كان عليهم ولا التذكير يضيع إذا كان مع المؤمنين، وقال مقاتل : معناه عظ بالقرآن كفار مكة فإنّ الذكرى تنفع من علم الله تعالى أنه مؤمن منهم، وقال الكلبي : عظ بالقرآن من آمن من قومك فإنّ الذكرى تنفعهم.
ولما بين حال من قبل النبيّ ﷺ في التكذيب بين سوء صنيعهم حيث تركوا عبادة الله تعالى الذي خلقهم للعبادة بقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٧


الصفحة التالية
Icon