فوجب التذكير. فلذلك قال تعالى :﴿فذكر﴾ أي : عظ يا أشرف الخلق بالقرآن ودم على ذلك ولا ترجع عنه لقول المشركين لك كاهن ومجنون ﴿فما أنت بنعمة ربك﴾ أي : بسبب ما أنعم به عليك المحسن إليك من هذا الناموس الأعظم بعد تأهيلك له بما هيأك به من رجاحة العقل وعلوّ الهمة وكرم الفعال وجود الكف وطهارة الأخلاق، وجعلك أشرف الناس عنصراً وأكملهم نفساً وأزكاهم خلقاً وهم معترفون لك بذلك قبل النبوّة. وأكد النفي بقوله تعالى :﴿بكاهن﴾ أي : تقول كلاماً مع كونه سجعاً متكلفاً أكثره فارغ وتحكم على المغيبات من غير وحي ﴿ولا مجنون﴾ أي : تقول كلاماً لا نظام له مع الإخبار ببعض المغيبات فلا يفترك قولهم هذا عن التذكير فإنه قول باطل لا تلحقك به معرة أصلاً، وعما قليل يكون عيباً لهم لا يغسله عنهم إلا اتباعهم لك فمن اتبعك منهم غسل عاره ومن استمرّ على عناده استمرّ تبابه وخساره.
تنبيه : نزلت هذه الآية في الذين اقتسموا عقاب مكة يرمون رسول الله ﷺ بالكهانة والسحر والجنون والشعر.
﴿أم يقولون﴾ أي : هؤلاء المقتسمون ﴿شاعر﴾ أي : هو شاعر قال الثعلبي : قال الخليل : كل ما في سورة والطور من أم فاستفهام وليس بعطف، وقال أبو البقاء : أم في هذه الآيات منقطعة وتقدم الخلاف في المنقطعة هل تقدر ببل وحدها أو ببل والهمزة أو بالهمزة وحدها، والصحيح الثاني. وقال مجاهد : في قوله تعالى :﴿أم تأمرهم﴾ (الطور : ٣٢)
تقديره : بل تأمرهم ﴿نتربص﴾ أي ننتظر ﴿به ريب المنون﴾ أي : حوادث الدهر وتقلبات الزمان لأنها لا تدوم على حال كالريب وهو الشك فإنه لا يبقى بل هو متزلزل قال الشاعر :
*تربص بها ريب المنون لعلها ** تطلق يوماً أو يموت حليلها*
وقال أبو ذئب :
*أمن المنون وريبها تتوجع
* ** والدهر ليس بمعتب من يجزع*
والمنون في الأصل : الدهر، وقال الراغب : المنون المنية لأنها تنقص العدد وتقطع المدد، والمعنى : بل يقولون يعني هؤلاء المقتسمين الخراصين شاعر نتربص به ريب المنون حوادث الدهر وصروفه، وذلك أنّ العرب كانت تحترز عن إيذاء الشعراء فإنّ الشعر كان عندهم يحفظ ويدوّن
١١٠
فقالوا لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره وإنما نصبر ونتربص موته ويهلك كما هلك من قبله من الشعراء وتتفرّق أصحابه فإنّ أباه مات شاباً ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه، والمنون يكون بمعنى الدهر وبمعنى الموت سميا بذلك لأنهما يقطعان الأجل.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٠٩
ثم إنه تعالى أمر نبيه محمداً ﷺ بقوله :﴿قل﴾ أي : لهؤلاء البعداء ﴿تربصوا﴾ أي انتظروا بي الموت ولم يعرج على محاججتهم في قولهم هذا تنبيهاً على أنه من السقوط بمنزلة ما لا يحتاج معه إلى ردّ بمجادلة، ثم سبب عن أمره لهم بالتربص قوله :﴿فإني معكم من المتربصين﴾ أي : العريقين في التربص وإن ظننتم خلاف ذلك وأكده تنبيهاً على أنه يرجو الفرج بمصيبتهم كما يرجون الفرج بمصيبته، وأشار بالمعية إلى أنه مساوٍ لهم في ذلك وإن ظنوا لكثرتهم وقوّتهم ووحدته وضعفه أن الأمر بخلاف ذلك.
قال القشيري : جاء في التفسير أنّ جميعهم أي الذين تربصوا به ماتوا قال ولا ينبغي لأحد أن يؤمل نفاق سوقه بموت أحد لتنتهي النوبة إليه فقلّ من تكون هذه صفاته إلا وسبقته المنية ولا يدرك ما تمناه من الأمنية.
فإن قيل : هذا أمر للنبيّ ﷺ ولفظ الأمر يوجب المأمور به أو يبيحه ويجوّزه وتربصهم كان حراماً. أجيب : بأنّ ذلك ليس بأمر وإنما هو تهديد أي تربصوا ذلك فإني متربص الهلاك بكم كقول الغضبان لعبده افعل ما شئت فإني لست عنك بغافل.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٠٩
﴿أم تأمرهم﴾ أي : تزين لهم تزييناً يصير ما لهم إليه من الانبعاث كالأمر ﴿أحلامهم﴾ أي عقولهم التي يزعمون أنهم اختصوا بجودتها دون الناس بحيث إنه كان يقال فيهم أولو الأحلام والنهى، فأزرى الله تعالى بعقولهم حين لم تتم لهم معرفة الحق من الباطل وذلك أنّ الأشياء لا يعبأ بها إلا إن تزينت بعقل أو نقل فقال : هل ورد أمر سمعي أم عقولهم تأمرهم ﴿بهذا﴾ أي : قولهم له ساحر كاهن مجنون وقيل : إلى عبادة الأوثان، وقيل : إلى التربص أي لا تأمرهم بذلك ﴿أم﴾ أي بل ﴿هم﴾ بظواهرهم وبواطنهم ﴿قوم﴾ ذوو قوة على ما يحاولونه فهم لذلك ﴿طاغون﴾ أي : مفترون ويقولون ما لا دليل عليه سمعاً ولا مقتضى له عقلاً، والطغيان مجاوزة الحدّ في العصيان وكذلك كل شيء مكروه ظاهر قال تعالى :﴿لما طغى الماء﴾ (الحاقة : ١١)


الصفحة التالية
Icon