يا أشرف الرسل ﴿عمن تولى﴾ أي : كلف نفسه خلاف ما يدعو إليه العقل والفطرة الأولى ﴿عن ذكرنا﴾ أي : القرآن الذي أنزلناه فلم يتله ولم يتدبر معانيه ﴿ولم يرد﴾ أي : في وقت من الأوقات ﴿إلا الحياة الدنيا﴾ أي الحاضرة لتقيده بالمحسوسات كالبهائم مع العمى عن دناءتها وحقارتها. قال الجلال المحلي : وهذا قبل الأمر بالجهاد.
قال الرازي : وأكثر المفسرين يقولون : بأن كل ما في القرآن من قوله تعالى :﴿فأعرض﴾ منسوخ بآية القتال وهو باطل، لأنّ الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ بها وذلك لأنّ النبيّ ﷺ في الأول كان مأموراً بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بإزالة شبههم والجواب عن أباطيلهم. وقيل له : وجادلهم بالتي أحسن ثم لما لم ينفع قال له ربه : أعرض عنهم ولا تقل لهم بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به ولا يتبعون الحق، وقاتلهم والإعراض عن المناظرة شرط لجواز المقاتلة فكيف يكون منسوخاً بها.
﴿ذلك﴾ أي : الأمر المتناهي في الجهل والقباحة ﴿مبلغهم﴾ أي : نهاية بلوغهم وموضع بلوغهم والحاصل لهم وتهكم بهم بقوله تعالى :﴿من العلم﴾ أي غايتهم من العلم أنهم آثروا الدنيا على الآخرة، والجملة اعتراض مقرر لقصور همتهم على الدنيا وقوله تعالى :﴿إنّ ربك﴾ أي : المحسن إليك بالرسالة ﴿هو أعلم﴾ أي : عالم ﴿بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى﴾ أي : ظاهراً وباطناً، تعليل للأمر بالإعراض أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب فلا تتعب نفسك في دعوتهم إذ ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت، لأنّ النبيّ ﷺ كان كالطبيب للقلوب فأتى على ترتيب الأطباء في أنّ المرض إذا أمكن إصلاحه بالغذاء لا يستعملون الدواء، وما أمكن إصلاحه بالدواء الضعيف لا يستعملون الدواء القويّ، ثم إذا عجزوا عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحديد والكي كما قيل : آخر الدواء الكي فالنبيّ ﷺ أولاً أمر القلوب بذكر الله تعالى فقط، فإن بذكر الله تطمئن القلوب، كما أنّ بالغذاء تطمئن النفوس والذكر غذاء القلوب، ولهذا قال ﷺ أولاً :"قولوا لا إله إلا الله أمر بالذكر فانتفع مثل أبي بكر، ومن لم ينتفع ذكر لهم الدليل وقال ﴿أو لم يتفكروا﴾ (الأعراف : ١٨٤)
﴿قل انظروا﴾ (يونس : ١٠١)
﴿أفلا ينظرون﴾ (الغاشية : ١٧)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٢٦
إلى غير ذلك، فلما لم ينتفعوا أتى بالوعيد والتهديد فلما لم ينفعهم قال أعرض عن المعالجة واقطع الفاسد لئلا يفسد الصالح.
فإن قيل : إنّ الله تعالى بين أنّ غايتهم ذلك في العلم ولا يكلف الله تعالى نفساً إلا وسعها والمجنون الذي لا علم له أو الصبيّ الذي لا يؤمر بما فوق احتماله فكيف يعاقبهم الله تعالى ؟
أجيب : بأنه ذكر قبل ذلك أنهم تولوا عن ذكر الله فكان عدم علمهم لعدم قبولهم العلم، وإنما قدر الله تعالى توليهم ليضاف الجهل إلى ذلك فيتحقق العقاب.
﴿ولله﴾ أي : الملك الأعظم وحده ﴿ما في السموات وما في الأرض﴾ أي : من الذوات والمعاني فيشمل ذلك السموات والأرض معترض بين الآية الأولى وبين قوله تعالى ﴿ليجزي الذين أساؤوا﴾ أي : بالضلال ﴿بما عملوا﴾ أي : بسببه أو بجنسه إما بواسطتك بسيوفك وبسيوف أتباعك إذ أذنت لكم في القتال، وإما بغير ذلك بالموت حتف الأنف تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ثم بعذاب الآخرة على جميع ذنوبهم من غير أن يكون عجل لهم في الدنيا شيء ينقص بسببه عذاب الآخرة.
١٢٧
تنبيه : اللام في ليجزي يجوز أن تتعلق بقوله تعالى :﴿بمن ضل﴾ و﴿بمن اهتدى﴾، واللام للصيرورة أي عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما عملوا قال معناه الزمخشري، وأن تتعلق بما دلّ عليه قوله تعالى :﴿أعلم بمن ضلّ﴾ أي : حفظ ذلك ليجزي قاله أبو البقاء ﴿ويجزي﴾ أي : ويثيب ويكرم ﴿الذين أحسنوا﴾ أي : على ثباتهم على الدين وصبرهم عليه وعلى أذى أعدائهم ﴿بالحسنى﴾ أي : بالمثوبة الحسنى وهي الجنة.
وبين المحسنين بقوله تعالى :﴿الذين يجتنبون﴾ أي : يكلفون أنفسهم ويجهدونها على أن يتركوا ﴿كبائر الإثم﴾ أي : ما عظم الشارع إثمه بعد تحريمه بالوعيد والحد، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الباء الموحدة وبعدها ياء ساكنة والباقون بفتح الموحدة وبعدها ألف وبعد الألف همزة مكسورة وعطف على كبائر قوله تعالى :﴿والفواحش﴾ والفاحشة من الكبائر ما كرهه الطبع وأنكره العقل واستخبثه الشرع والكبيرة صفة عائدة إلى الكيفية.
وقوله تعالى :﴿إلا اللمم﴾ فيه أوجه : أحدها وهو المشهور أنه استثناء منقطع أي لكن اللمم، لأنه الصغائر فلم تندرج فيما قبلها ثانيها : أنه صفة وإلا بمعنى غير كقوله تعالى ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾ (الأنبياء : ٢٢)