وقوله تعالى :﴿حكمة﴾ خبر مبتدأ محذوف أو بدل من ما أومن مزدجر ﴿بالغة﴾ أي : لها أعظم البلوغ إلى أنهى غايات الحكمة لصحتها ووضوحها ففيها مع الزجر ترجئة ومواعظ وأحكام ودقائق ﴿فما تغن﴾ أي : تنفع ﴿النذر﴾ أي : الإنذارات والمنذرون والأمور المنذر بها ومنها إنما المغني بذلك هو الله تعالى فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن.
قال البقاعي : ولعل الإشارة بإسقاط ياء تغني بإجماع المصاحف من غير موجب في اللفظ إلى أنه كما سقطت غاية أحرف الكلمة سقطت ثمرة الإنذار وهو القبول.
تنبيه : يجوز في ما أن تكون استفهامية وتكون في محل نصب مفعولاً مقدّماً أي أي شيء تغني النذر وأن تكون نافية أي لم تغن النذر شيئاً والنذر جمع نذير والمراد به المصدر أو اسم الفاعل.
ولما كان ﷺ شديد التعلق بطلب نجاتهم فهو لذلك ربما اشتهى إجابتهم إلى مقترحاتهم تسبب عن ذلك قوله تعالى :﴿فتولّ عنهم﴾ أي : كلف نفسك الإعراض عن تمني ذلك فما عليك إلا البلاغ وأمّا الهداية فإلى الله تعالى وحده.
تنبيه : قال أكثر المفسرين نسختها آية السيف وقال الرازي إنّ قول المفسرين في قوله تعالى :﴿فتولّ﴾ منسوخ ليس كذلك بل المراد منه لا تناظرهم بالكلام وقوله تعالى :﴿يوم﴾ منصوب باذكر، أي : واذكر يوم ﴿يدع الداع﴾. وقيل : منصوب بيخرجون بعده والداعي معرف كالمنادي في قوله تعالى :﴿يوم ينادي المنادي﴾ (ق : ٤١)
لأنه معلوم قد أخبر عنه فقيل إنّ منادياً ينادي وداعياً يدعو، فقيل : الداعي إسرافيل عليه السلام ينفخ قائماً على صخرة بيت المقدس قاله مقاتل، وقيل : جبريل عليه السلام وقيل : ملك موكل بذلك والتعريف حينئذ لا يقطع حدّ العلمية ويكون كقولنا جاء رجل فقال الرجل قاله الرازي. وقرأ نافع وأبو عمرو بحذف الياء بعد العين وقفاً وإثباتها وصلاً وابن كثير بإثباتها وقفا ووصلا والباقون بحذفها وقفا ووصلا ﴿إلى شيء نكر﴾ أي : منكر فظيع لم ير مثله فينكرونه استعظاماً.
فإن قيل ما ذلك الشيء المنكر أجيب بأنه الحساب أو الجمع له أو النشر للجمع فإن قيل النشر لا يكون منكراً فإنه أحياء ولأنّ الكافر من أين يعرف وقت النشر ما يُجزى عليه لينكره أجيب بأنه يعلم ذلك لقوله تعالى عنهم :﴿يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا﴾ (يس : ٥٢)
وقرأ ابن كثير بسكون الكاف والباقون بالرفع.
١٤٢
ولما بين تعالى دعاءه بما هال أمره بين حال المدعوّين زيادة في الهول فقال تعالى :﴿خشعاً أبصارهم﴾ أي : ينظرون نظر الخاضع الذليل السافل المنزلة المستوحش الذي هو شرّ حال، ونسب الخشوع إلى الأبصار لأنّ الذل والعز يتبين في النظر والذل أن يرمي به صاحبه إلى الأرض مثلاً مع هيبة يعرف منها ذلك كما قال تعالى :﴿خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي﴾ (الشورى : ٤٥)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٠
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بفتح الخاء وألف بعدها وكسر الشين والباقون بضم الخاء ولا ألف بعدها وفتح الشين مشدّدة أمّا القراءة الأولى فهي جارية على اللغة الفصحى من حيث إنّ الفعل وما جرى مجراه إذا قدّم على الفاعل وحد تقول : تخشع أبصارهم، ولا تقول : تخشعن أبصارهم وأمّا القراءة الثانية فجاءت على لغة طيىء يقولون : أكلوني البراغيث قال الزمخشري : ويجوز أن يكون في خشعاً ضمير هم ويقع أبصارهم بدلاً عنه ا. ه. وتقدّم نظير ذلك في قوله تعالى في الأنبياء :﴿وأسروا النجوى الذين ظلموا﴾ (الأنبياء : ٣)
وجملة ﴿خُشَّعاً أبصارهم﴾ حال من فاعل ﴿يخرجون﴾ أي : الناس ﴿من الأجداث﴾ أي : القبور ﴿كأنهم جراد﴾ أي : في كثرتهم وتراكم بعضهم على بعض وصغارهم وضعفهم وتموّجهم يقال في الجيش الكثير المائج بعضه فوق بعض جاؤوا كالجراد وكالذباب ﴿منتشر﴾ أي : منبث متفرّق في كل مكان لكثرتهم لا يدرون أين يذهبون.
﴿مهطعين﴾ أي : مسرعين مادّي أعناقهم ﴿إلى الداعي﴾ مصوبي رؤوسهم إليه لا يلتفتون إلى سواه كما يفعل من ينظر في ذل وخضوع وصمت واستكانة هذا حال الكل، وأمّا الكافر فنبه عليه بقوله تعالى :﴿يقول﴾ أي : على سبيل التكرار ﴿الكافرون﴾ أي الذين كانوا في الدنيا عريقين في ستر الأدلة وإظهار الأباطيل المضلة :﴿هذا﴾ أي الوقت الذي نحن فيه لما نرى فيه من الأهوال ﴿يوم عسر﴾ أي : في غاية العسر والصعوبة والشدّة وذلك بحسب حالهم فيه كما قال تعالى في سورة المدّثر :﴿يوم عسير على الكافرين﴾ (المدثر : ٩ ـ ١٠)
ولما فرغ من حكاية كلام الكافرين ومن ذكر علامات الساعة أعاد ذكر بعض الأنبياء فقال تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٠
﴿كذبت﴾ أي : أوقعت التكذيب العظيم الذي عموا به جميع الرسالات وجميع الرسل ﴿قبلهم﴾ أي : أهل مكة ﴿قوم نوح﴾ مع ما كان بهم من القوّة ولهم من الانتشار في جميع الأقطار، وأنث فعلهم تحقيراً لهم، وتهويناً لأمرهم في جنب قدرته تعالى.


الصفحة التالية
Icon