وكرّر قوله تعالى :﴿فكيف كان عذابي ونذر﴾ للتهويل. وقيل : الأوّل : لما حاق بهم في الدنيا، والثاني : لما يحيق بهم في الآخرة، كما قال أيضاً في قصتهم :﴿لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى﴾ (فصلت : ١٦)
وتقدّم تفسير قوله تعالى :﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر﴾ وكرّره إيذاناً بأنّ تفسير القرآن مع إعجازه لا يكون إلا بعظمة تفوت قوى البشر، وتعجز عنها منهم القدر.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٥
ولما انقضت قصة عاد ذكر تعالى قصة ثمود لأنها تلي قصة عاد في الفظاعة، فقال تعالى :﴿كذبت ثمود﴾ أي قوم صالح عليه السلام وقوله تعالى :﴿بالنذر﴾ جمع نذير بمعنى منذر أي بالإنذارات التي أنذرهم بها نبيهم صالح عليه السلام إن لم يؤمنوا به.
ثم علل ذلك وعقبه بقوله تعالى :﴿فقالوا﴾ منكرين لما جاءهم من الله تعالى غاية الإنكار ﴿أبشراً﴾ إنكار الرسالة، هذا النوع ليكون إنكار النبوة نبيهم على أبلغ الوجوه وهو منصوب بفعل يفسره ﴿نتبعه﴾ الآتي.
١٤٦
وقولهم :﴿منا﴾ نعت له أي فلا فضل له علينا فما وجه اختصاصه بذلك من بيننا، وقولهم :﴿واحداً﴾ نعت له أيضاً، ثم عظموا الإنكار بقولهم ﴿نتبعه﴾ أي : نجاهد أنفسنا في خلع مألوفنا وما كان عليه آباؤنا، والاستفهام بمعنى النفي والمعنى : كيف نتبعه ونحن أشد الناس قوّة وكثرة وهو واحد منّا.
ثمَّ استنتجوا من هذا الإنكار الشديد قولهم مؤكدين :﴿إنَّا إذاً﴾ أي : إن أتبعناه ﴿لفي ضلال﴾ أي : ذهاب عن الصواب محيط بنا ﴿وسعر﴾ أي : ونيران جمع سعير فعكسوا عليه وقالوا : إن اتبعناك كنا إذاً كما تقول، وقيل : السعر الجنون يقال ناقة مسعورة قال الشاعر :
*كأنّ بها سعر إذا العيس هزها ** ذميل وإرخاء من السير متعب*
ثم استدلوا بأمر آخر ساقوه مساق الإنكار فقالوا :﴿أألقي﴾ أي : أنزل ﴿الذكر﴾ أي : الوحي الذي يكون به الشرف الأعظم بغتة في سرعة ﴿عليه﴾ لأنه لم يكن عندهم في مضمار هذا الشأن، ولا توسموا فيه قبل إشارته به شيئاً منه بل أتاهم به بغتة في غاية الإسراع ودلوا على وجه التعجب والإنكار بالاختصاص بقولهم :﴿من بيننا﴾ أي : وفينا من هو أولى بذلك منه سنا وشرفاً، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : بتحقيق الهمزة الأولى المفتوحة وتسهيل الثانية المضمومة كالواو، وأدخل قالون وأبو عمرو بينهما ألفا بخلاف عن أبي عمرو ولم يدخل ورش وابن كثير ألفا، وأمّا هشام فله تسهيل الثانية وتحقيقها وإدخال الألف بينهما مع التحقيق، والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال، وإذا وقف حمزة فله في الثانية التسهيل وإبدالها واواً والتحقيق.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٦
ثم أضربوا عن ذلك الاستفهام لأنه بمعنى النفي بقولهم :﴿بل هو كذاب﴾ أي : بليغ في الكذب في قوله إنه أوحى إليه ما ذكر ﴿أشر﴾ أي : متكبر بطر غلبت عليه البطالة حتى أعجبته نفسه فتجبر فهو يريد الترفع، قال الله تعالى :﴿سيعلمون﴾ أي : بوعد لا خلف فيه ﴿غداً﴾ أي : في الزمن الآتي القريب وهو يوم القيامة، لأنّ كل ما حقق إتيانه قريب عند نزول العذاب في الدنيا ويوم القيامة.
وقرأ ابن عامر وحمزة بعد السين بتاء الخطاب وفيه وجهان : أحدهما أنه حكاية عن قول صالح عليه السلام لقومه. والثاني : أنه خطاب من الله تعالى على جهة الالتفات، والباقون بياء الغيبة جرياً على الغيب قبله في قوله تعالى :﴿فقالوا أبشراً﴾ واختار هذه القراءة مكي، لأنّ عليها الأكثر. ﴿من الكذاب الأشر﴾ أي : وهو هم بأن يعذبوا على تكذيبهم لنبيه صالح ﷺ وروي أنهم تعنتوا عليه فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء فقال تعالى :﴿إنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿مرسلوا الناقة﴾ أي موجدوها لهم ومخرجوها كما اقترحوا من حجر أهلناه لذلك وخصصناه من بين الأحجار دلالة على إرسالنا صالحاً عليه السلام : مخصصين له من بين قومه وذلك أنهم قالوا لصالح عليه السلام نريد أن نعرف المحق، منا بأن ندعوا آلهتنا وتدعو إلهاك فمن أجابه إلهه علم أنه المحق فدعوا أوثانهم فلم تجبهم، فقالوا : ادع أنت فقال : فما تريدون ؟
قالوا : تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء وبراء، فأجابهم إلى ذلك بشرط الإيمان، فوعدوه بذلك وأكدوا فكذبوا بعدما كذبوا في أنّ آلهتهم تجيبهم، وصدق هو عليه السلام في كل ما قال فأخبره ربه
١٤٧
سبحانه أنه يجيبهم إلى إخراجها ﴿فتنة لهم﴾ أي : امتحاناً يخالطهم به فيميلهم عن حالتهم التي وعدوا بها وتخليهم عنها، لأنّ المعجزة فتنة لأنّ بها يتميز المثاب من المعذب، فالمعجزة تصديق وحينئذ يفترق المصدّق من المكذب، أو يقال : إخراج الناقة من الصخرة معجزة ودورانها بينهم وقسمة الماء كان فتنة، ولهذا قال تعالى :﴿إنا مرسلوا الناقة﴾ ولم يقل :﴿مخرجوا﴾.


الصفحة التالية
Icon