المسألة الخامسة عشرة : قال ابن جني : لفظ القول يقع على الكلام التام، وعلى الكلمة الواحدة، على سبيل الحقيقة، أما لفظ الكلام فمختص بالجملة التامة، ولفظ الكلمة مختص بالمفرد وحاصل كلامه في الفرق بين البابين أنا إذا بينا أن تركيب القول يدل على الخفة والسهولة وجب أن يتناول الكلمة الواحدة، أما تركيب الكلام فيفيد التأثير، وذلك لا يحصل إلا من الجملة التامة ؛ إلا أن هذا يشكل بلفظ الكلمة، ومما يقوي ذلك قول الشاعر : ـ
قلت لها قفي فقالت قاف
سمى نطقها بمجرد القاف قولاً
المسألة السادسة عشرة : قال أيضاً إن لفظ القول يصح جعله مجازاً عن الاعتقادات والآراء، كقولك : فلان يقول بقول أبي حنيفة، ويذهب إلى قول مالك، أي : يعتقد ما كانا يريانه ويقولان به، ألا ترى أنك لو سألت رجلاً عن صحة رؤية الله تعالى فقال : لا تجوز رؤيته، فتقول : هذا قول المعتزلة، ولا تقول هذا كلام المعتزلة إلا على سبيل التعسف، وذكر أن السبب في حسن هذا المجاز أن الاعتقاد لا يفهم إلا بغيره، فلما حصلت المشابهة من هذا الوجه لا جرم حصل سبب جعله مجازاً عنه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
يستعمل القول في غير النطق :
المسألة السابعة عشرة : لفظ قال قد يستعمل في غير النطق، قال أبو النجم : ـ
فقالت له الطير تقدم راشدا
إنك لا ترجع إلا حامدا
وقال آخر : ـ
فوقالت له العينان سمعاً وطاعة
وحدرتا كالدر لما يثقب
وقال : ـ
فامتلأ الحوض وقال : قطني
مهلاً رويداً قد ملأت بطني
ويقال في المثل : قال الجدار للوتد لم تشقني، قال : سل من يدقني، فإن الذي ورايى ما خلاني ورايى، ومنه قوله تعالى :﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ (النحل : ٤٠) وقوله تعالى :﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ﴾ (فصلت : ١١).
المسألة الثامنة عشرة : الذين ينكرون كلام النفس اتفقوا على أن الكلام والقول اسم لهذه الألفاظ والكلمات، أما مثبتو كلام النفس فقد اتفقوا على أن ذلك المعنى النفساني يسمى بالكلام وبالقول، واحتجوا عليه بالقرآن والأثر والشعر : أما القرآن فقوله تعالى :﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لَكَـاذِبُونَ﴾ (المنافقون : ١) وظاهر أنهم ما كانوا كاذبين في اللفظ لأنهم أخبروا أن محمداً / رسول الله وكانوا صادقين فيه، فوجب أن يقال إنهم كانوا كاذبين في كلام آخر سوى اللفظ وما هو إلا كلام النفس، ولقائل أن يقول : لا نسلم أنهم ما كانوا كاذبين في القول اللساني، قوله :"أخبروا أن محمداً رسول الله" قلنا : لا نسلم بل أخبروا عن كونهم شاهدين بأن محمداً رسول الله، لأنهم كانوا قالوا :﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه ﴾ (المنافقون : ١) والشهادة لا تحصل إلا مع العلم، وهم ما كانوا عالمين به، فثبت أنهم كانوا كاذبين، فيما أخبروا عنه بالقول اللساني، وأما الأثر فما نقل أن عمر قال يوم السقيفة : كنت قد زورت في نفسي كلاماً فسبقني إليه أبو بكر، وأما الشاعر فقول الأخطل : ـ
فإن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وأما اللذين أنكروا كون المعنى القائم بالنفس يسمى بالكلام فقد احتجوا عليه بأن من لم ينطق ولم يتلفظ بالحروف يقال إنه لم يتكلم، وأيضاً الحنث والبر يتعلق بهذه الألفاظ، ومن أصحابنا من قال : اسم القول والكلام مشترك بين المعنى النفساني وبين اللفظ اللساني.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
المسألة التاسعة عشرة : هذه الكلمات والعبارات قد تسمى أحاديث، قال الله تعالى :﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِه ﴾ (الطور : ٣٤) والسبب في هذه التسمية أن هذه الكلمات إنما تتركب من الحروف المتعاقبة المتوالية فكل واحد من تلك الحروف يحدث عقيب صاحبه، فلهذا السبب سميت بالحديث ويمكن أيضاً أن يكون السبب في هذه التسمية أن سماعها يحدث في القلوب العلوم والمعاني/ والله أعلم.
المسألة العشرون : ههنا ألفاظ كثيرة، فأحدها : الكلمة، وثانيها : الكلام، وثالثها : القول، ورابعها : اللفظ، وخامسها : العبارة، وسادسها : الحديث، وقد شرحناها بأسرها، وسابعها : النطق ويجب البحث عن كيفية اشتقاقه، وأنه هل هو مرادف لبعض تلك الألفاظ المذكورة أو مباين لها، وبتقدير حصول المباينة فما الفرق.
المسألة الحادية والعشرون : في حد الكلمة، قال الزمخشري في أول "المفصل" : الكلمة هي اللفظة الدالة على معنى مفرد بالوضع. وهذا التعريف ليس بجيد، لأن صيغة الماضي كلمة مع أنها لا تدل على معنى مفرد بالوضع، فهذا التعريف غلط، لأنها دالة على أمرين : حدث وزمان وكذا القول في أسماء الأفعال، كقولنا : مه، وصه، وسبب الغلط أنه كان يجب عليه جعل المفرد صفة للفظ، فغلط وجعله صفة للمعنى.
اللفظ مهمل ومستعمل وأقسامه :


الصفحة التالية
Icon